{ 85 - 87 } { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا * لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا }
يخبر تعالى عن تفاوت الفريقين المتقين ، والمجرمين ، وأن المتقين له -باتقاء الشرك والبدع والمعاصي- يحشرهم إلى موقف القيامة مكرمين ، مبجلين معظمين ، وأن مآلهم الرحمن ، وقصدهم المنان ، وفودا إليه ، والوافد لابد أن يكون في قلبه من الرجاء ، وحسن الظن بالوافد [ إليه ] ما هو معلوم ، فالمتقون يفدون إلى الرحمن ، راجين منه رحمته وعميم إحسانه ، والفوز بعطاياه في دار رضوانه ، وذلك بسبب ما قدموه من العمل بتقواه ، واتباع مراضيه ، وأن الله عهد إليهم بذلك الثواب على ألسنة رسله فتوجهوا إلى ربهم مطمئنين به ، واثقين بفضله .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن خالد{[19128]} ، عن عمرو بن قيس الملائي ، عن ابن مرزوق : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا } قال : يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها ، وأطيبها ريحًا ، فيقول : من أنت ؟ فيقول : أما تعرفني ؟ فيقول : لا إلا أن الله قد طيب ريحك وحسن وجهك . فيقول : أنا عملك الصالح ، وهكذا كنت في الدنيا ، حسن العمل طيبه ، فطالما ركبتك في الدنيا ، فهلم اركبني ، فيركبه . فذلك قوله : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا } .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا } قال : ركبانًا .
وقال ابن جرير : حدثني ابن المثنى ، حدثنا ابن مهدي ، عن شعبة{[19129]} ، عن إسماعيل ، عن رجل ، عن أبي هريرة : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا } قال : على الإبل .
وقال ابن جُريج : على النجائب .
وقال الثوري : على الإبل النوق .
وقال قتادة : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا } قال : إلى الجنة .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه : حدثنا سُوَيْد بن سعيد ، أخبرنا علي بن مُسْهِر ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، حدثنا النعمان بن سعد قال : كنا جلوسًا عند عليّ ، رضي الله عنه ، فقرأ هذه الآية : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا } قال : لا والله ما على أرجلهم يحشرون ، ولا يحشر الوفد على أرجلهم ، ولكن بنوق لم ير{[19130]} الخلائق مثلها ، عليها رحائل من ذهب ، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة{[19131]} .
وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، من حديث عبد الرحمن بن إسحاق المدني ، به . وزاد : " عليها رحائل الذهب ، وأزمتها الزبرجد " والباقي مثله .
وروى ابن أبي حاتم هاهنا حديثا غريبًا جدًّا مرفوعًا ، عن علي فقال :
حدثنا أبي ، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي ، حدثنا مسلمة بن جعفر البَجَلي ، سمعت أبا معاذ البصري قال : إن عليا كان ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ هذه الآية : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا } فقال : ما أظن الوفد إلا الركب{[19132]} يا رسول الله . فقال رسول الله{[19133]} صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده إنهم إذا خرجوا من قبورهم يستقبلون - أو : يؤتون - بنوق بيض لها أجنحة ، وعليها رحال الذهب ، شُرُك نعالهم نور يتلألأ كل خطوة منها مد البصر ، فينتهون إلى شجرة ينبع من أصلها عينان ، فيشربون من إحداهما ، فتغسل ما في بطونهم من دنس ، ويغتسلون من الأخرى فلا تشعث أبشارهم ولا أشعارهم بعدها أبدًا ، وتجري عليهم نضرة النعيم ، فينتهون أو : فيأتون باب الجنة ، فإذا حلقة من ياقوتة حمراء على صفائح الذهب ، فيضربون بالحلقة على الصفيحة{[19134]} فيسمع{[19135]} لها طنين يا علي ، فيبلغ كل حوراء أن زوجها قد أقبل ، فتبعث قيمها فيفتح له ، فإذا رآه خرّ له - قال مسلمة{[19136]} أراه قال : ساجدًا - فيقول : ارفع رأسك ، فإنما أنا قيمك ، وكلت بأمرك . فيتبعه ويقفو أثره ، فتستخف الحوراء العجلة فتخرج من خيام الدر والياقوت حتى تعتنقه ، ثم تقول : أنت - حِبّي ، وأنا حبّك ، وأنا الخالدة التي لا أموت ، وأنا الناعمة التي لا أبأس ، وأنا الراضية التي لا أسخط ، وأنا المقيمة التي لا أظعن . فيدخل بيتًا من أسّه إلى سقفه مائة ألف ذراع ، بناؤه على جندل اللؤلؤ طرائق : أصفر وأحمر وأخضر ، ليس منها طريقة تشاكل صاحبتها . وفي البيت سبعون سريرًا ، على كل سرير سبعون حشية ، على كل حشية سبعون زوجة ، على كل زوجة سبعون حلة ، يرى مخ ساقها من وراء الحلل ، يقضي جماعها في مقدار ليلة من لياليكم هذه . الأنهار من تحتهم تطرد ، أنهار من ماء غير آسن - قال : صاف لا كَدَر فيه{[19137]} - وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، لم يخرج من ضروع الماشية ، وأنهار من خمر لذة للشاربين ، لم يعتصرها{[19138]} الرجال بأقدامهم{[19139]} وأنهار من عسل مصفى لم يخرج من بطون النحل ، فيستحلي{[19140]} الثمار ، فإن شاء أكل قائمًا ، وإن شاء قاعدًا ، وإن شاء متكئًا ، ثم تلا { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا } [ الإنسان : 14 ] ، فيشتهي الطعام ، فيأتيه طير أبيض ، وربما قال : أخضر{[19141]} فترفع أجنحتها ، فيأكل من جنوبها أي الألوان شاء ، ثم تطير فتذهب ، فيدخل الملك فيقول : سلام عليكم : { تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الزخرف : 72 ] ولو أن شعرة من شعر الحوراء{[19142]} وقعت لأهل الأرض ، لأضاءت الشمس معها سواد في نور " {[19143]} .
هكذا وقع في هذه الرواية مرفوعًا ، وقد رويناه في المقدمات من كلام علي ، رضي الله عنه ، بنحوه ، وهو أشبه بالصحة ، والله أعلم .
قال القاضي أبو محمد : وما تضمنته هذه الألفاظ من الوعيد بعذاب الآخرة هو العامل في قوله { يوم } ويحتمل أن يعمل فيه لفظ مقدر تقديره واذكر أو احذر ونحو هذا ، و «الحشر » الجمع ، وقد صار في عرف ألفاظ الشرع البعث من القبور ، وقرأ الحسن يوم «يحشر المتقون ويساق المجرمون » ، وروي عنه «ويسوق المجرمين » بالياء . و «المتقون » هم المؤمنون الذين غفر لهم ، وظاهر هذه الوفادة أنها بعد انقضاء الحساب ، وإنما هي النهوض الى الجنة ، وكذلك سوق المجرمين إنما هو لدخول النار . و { وفداً } قال المفسرون معناه ركباناً وهي عادة الوفود لأنهم سراة الناس{[8046]} وأحسنهم شكلاً فشبه أهل الجنة بأولئك لا أنهم في معنى الوفادة إذ هو مضمن الانصراف ، وإنما المراد تشبيههم بالوفد هيئة وكرامة ، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنهم يجيئون ركباناً على النوق المحلاة بحلية الجنة خطمها{[8047]} من ياقوت وزبرجد ونحو هذا ، وروي عن عمر بن قيس الملائي{[8048]} أنهم يركبون على تماثيل من أعمالهم الصالحة هي في غاية الحسن ، وروي «أنهم يركب كل أحد منهم ما أحب فمنهم من يركب الإبل ومن يركب الخيل ومن يركب السفن فتجيء عائمة بهم » ، وقد ورد في الضحايا أنها مطاياكم إلى الجنة ، وفي أكثرها بعد ، لكن ذكرناه بحسب الجمع للأقوال .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يوم نجمع الذين اتقوا في الدنيا فخافوا عقابه، فاجتنبوا لذلك معاصيه، وأدّوا فرائضه إلى ربهم "وَفْدا "يعني بالوفد: الركبان. يقال: وفدت على فلان: إذا قدمت عليه، وأوفد القوم وفدا على أميرهم، إذا بعثوا من قبلهم بعثا...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الوفد في الشاهد هم أهل الكرامة والمنزلة؛ يُبعثون لأمور. فكأنه ذكر أن المتقين يحشرون، وهم مكرمون معظمون، ولهم منزلة عند الله وقدر،...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَفْداً} فيه ثلاثة أوجه:أحدها: ركباناً، قاله الفراء. الثاني: جماعة، قاله الأخفش. الثالث: زوّاراً، قاله ابن بحر...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
قيل ركباناً على نجائب طاعاتهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... ذكر المتقون بلفظ التبجيل. وهو أنهم يجمعون إلى ربهم الذي غمرهم برحمته وخصهم برضوانه وكرامته، كما يفد الوفاد على الملوك منتظرين للكرامة عندهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وظاهر هذه الوفادة أنها بعد انقضاء الحساب، وإنما هي النهوض الى الجنة، وكذلك سوق المجرمين إنما هو لدخول النار...
و {وفداً} قال المفسرون معناه ركباناً وهي عادة الوفود لأنهم سراة الناس وأحسنهم شكلاً، فشبه أهل الجنة بأولئك لا أنهم في معنى الوفادة إذ هو مضمن الانصراف، وإنما المراد تشبيههم بالوفد هيئة وكرامة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما بين مآل حال الكافرين في آلهتهم ودليله، أتبعه بوقته فقال: {يوم} أي يكفرون بعبادتهم يوم {نحشر المتقين} أي العريقين في هذا الوصف؛ ولما تقدمت سورة النعم العامة النحل، وأتبعت سورة النعم الخاصة بالمؤمنين وبعض العامة، مثل
{ولقد كرمنا بني آدم} [الإسراء: 70]، ثم سورتي الخاصة بالصالحين الكهف وهذه، قال: {إلى الرحمن} فيدخلهم دار الرضوان، فذكر الاسم الدال على عموم الرحمة، وكرره في هذه السورة تكريراً دل على ما فهمته، وربما أيد ذلك افتتاح النحل بنعمة البيان على هذا الإنسان التي عبر عنها بالخصيم، وختام هذه بالقوم اللد من حيث رد مقطع هذه التي كانت بالنظر إلى النعم شيئاً واحداً على مطلعها {وفداً} أي القادمين في إسراع ورفعة وعلى، كما تقدم الوفود على الملوك، فيكونون في الضيافة والكرامة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والحشر: الجمع مطلقاً، يكون في الخير كما هنا، وفي الشرّ كقوله: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم} [الصافات: 22، 23]، ولذلك أتبع فعل {نحشر} بقيد {وَفداً}، أي حَشْر الوفود إلى الملوك، فإن الوفود يكونون مُكرمين، وكانت لملوك العرب وكرمائهم وفود في أوقات، ولأعيان العرب وفادات سنويّة على ملوكهم وسادتهم، ولكلّ قبيلة وفادة... وقد اتّبع العرب هذه السنّة فوفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم لأنّه أشرف السادة. وسنةُ الوفود هي سنة تسع من الهجرة تلت فتحَ مكة بعموم الإسلام بلاد العرب. وذكر صفة {الرَّحمان} هنا واضحة المناسبة للوفد...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الملفت للنظر أنّنا نقرأ في الآية: أنّ المتقين يحشرون إلى الرحمن، في حين أنّ الكلام في الآية التالية عن سوق المجرمين إلى جهنم، وعلى هذا ألم يكن من المناسب أن يقال: (الجنة) هنا بدل (الرحمن)؟ إِلاّ أنّ هذا التعبير في الحقيقة يشير إلى نكتة مهمة، وهي أن المتقين يحصلون هناك على ما هو أسمى من الجنة، فهم يقتربون من الله وتجلياته الخالصة، ويدركون رضاه الذي هو أسمى وأغلى من الجنّة.