وقوله : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا } : يخبر تعالى عن ندم الظالم الذي فارق طريق الرسول وما جاء به من عند الله من الحق المبين ، الذي لا مرْية فيه ، وسلك طريقا أخرى غير سبيل الرسول ، فإذا كان يوم القيامة نَدمَ حيثُ لا ينفعه النَدَمُ ، وعضّ على يديه حسرةً وأسفا .
وسواء كان سبب نزولها في عقبة بن أبي مُعَيط أو غيره من الأشقياء ، فإنها عامة في كل ظالم ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } [ الأحزاب : 66 - 68 ] فكل{[21505]} ظالم يندم يوم القيامة غاية الندم ، ويَعَض على يديه قائلا { يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا } .
{ ويوم يعض الظالم على يديه } من فرط الحسرة ، وعض اليدين وأكل البنان وحرق الأسنان ونحوها كنايات عن الغيظ والحسرة لأنها من روادفهما ، والمراد ب{ الظالم } الجنس . وقيل عقبة بن أبي معيط كان يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم ، فدعاه إلى ضيافته فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادة ففعل وكان أبي بن خلف صديقه فعاتبه وقال صبأت فقال : لا ، ولكن آلى أن لا يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحيت منه فشهدت له ، فقال لا أرى منك إلا أن تأتيه فتطأ قفاه وتبزق في وجهه ، فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل ذلك ، فقال عليه الصلاة والسلام : لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف ، فأسر يوم بدر فأمر عليا فقتله وطعن أبيا بأحد في المبارزة فرجع إلى مكة ومات . { يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا } طريقا إلى النجاة أو طريقا واحدا وهو طريق الحق ولم تتشعب بي طرق الضلالة .
هذا هو ذلك اليوم أعيد الكلام عليه باعتبار حال آخر من أحوال المشركين فيه ، أو باعتبار حال بعض المشركين المقصود من الآية .
والتعريف في { الظالم } يجوز أن يكون للاستغراق . والمراد بالظلم الشرك فيعم جميع المشركين الذين أشركوا بعد ظهور الدعوة المحمدية بقرينة قوله : { يقول يا ليتني اتخذتُ مع الرسول سبيلاً } ، ويكون قوله : { ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً } إعلاماً بما لا تخلو عنه من صحبة بعضهم مع بعض وإغراء بعضهم بعضاً على مناوأة الإسلام .
ويجوز أن يكون للعهد المخصوص . والمراد بالظلم الاعتداء الخاص المعهود من قصة معينة وهي قصة عقبة بن أبِي معيْط وما أغراه به أُبَيّ بن خلف . قال الواحدي وغيره عن الشعبي وغيره : كان عقبة بن أبي مَعيط خليلاً لأمية بن خلف ، وكان عقبة لا يقدَم من سفر إلا صنع طعاماً ودعا إليه أشرافَ قومه ، وكان يُكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم فقدِم من بعض أسفاره فصنع طعاماً ودعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلما قرّبوا الطعام قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ما أنا بآكل من طعامك حتى تَشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فقال عقبة : أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله ، فأكل رسول الله من طعامه . وكان أُبَيّ بن خلف غائباً فلما قدم أُخبر بقضيته ، فقال : صَبَأتَ يا عقبةُ ، قال : والله ما صبأتُ ولكن دخل عليّ رجل فأبى أن يأكل من طعامي حتى أشهد له ، فاستحييتُ أن يخرج من بيتي ولم يَطْعَم ، فشهدتُ له فطَعِم ، فقال أُبَيّ : ما أنا بالذي أرضى عنك أبداً إلاّ أن تأتيه فتبصق في وجهه ، فكفَر عقبة وأخذ في امتثال ما أمره به أبيّ بن خلف ، فيكون المراد ب ( فلان ) الكناية عن أبَيّ بن خلف فخصوصه يقتضي لحاق أمثاله من المشركين الذين أطاعوا أخلّتهم في الشرك ولم يتّبِعُوا سبيل الرسول ، ولا يخلو أحد من المشركين عن خليل مشرك مثله يصدّه عن متابعة الإسلام إذا هَمّ به ويثْبِته على دين الشرك فيتندم يوم الجزاء على طاعته ويذكره باسمه .
والعَضّ : الشدّ بالأسنان على الشيء ليُؤلمه أو ليُمسكه ، وحقه التعدية بنفسه إلا أنه كثرت تعديته ب { على } لإفادة التمكن من المعضوض إذا قصدوا عضّاً شديداً كما في هذه الآية .
والعضّ على اليد كناية عن الندامة لأنهم تعارفوا في بعض أغراض الكلام أن يصحبوها بحركات بالجسد مثل التّشذر ، وهو رفع اليد عند كلام الغضب قال ، لبيد :
غُلْب تشذّر بالدخول كأنهم *** جن البدي رواسياً أقدامها
ومثل وضع اليد على الفم عند التعجب . قال تعالى : { فَرَدُّوا أيديهم في أفواههم } [ إبراهيم : 9 ] . ومنه في الندم قرع السن بالأصبع ، وعَضّ السبابة ، وعَضّ اليد .
ويقال : حَرَّق أسنانه وحرّق الأُرَّم ( بوزن رُكَّع ) الأضراس أو أطراف الأصابع ، وفي الغيظ عضّ الأنامل قال تعالى : { عَضُّوا عليكم الأنامل من الغيظ } في سورة [ آل عمران : 119 ] ، وكانت كناياتتٍ بناء على ما يلازمها في العرف من معان نفسية ، وأصل نشأتها عن تهيج القوة العصبية من جراء غضب أو تلهف .
والرّسول : هو المعهود وهو محمد صلى الله عليه وسلم
واتخاذ السبيل : أخذه ، وأصل الأخذ : التناول باليد ، فأطلق هنا على قصد السير فيه قال تعالى : { واتّخذ سبيله في البحر } [ الكهف : 63 ] .
و { مع الرسول } أي متابعاً للرسول كما يتابع المسافر دليلاً يسلك به أحسن الطرق وأفضاها إلى المكان المقصود . وإنما عُدل عن الإتيان بفعل الاتباع ونحوه بأن يقال : يا ليتني اتبعتُ الرسول ، إلى هذا التركيب المطنب لأن في هذا التركيب تمثيل هيئة الاقتداء بهيئة مُسايَرة الدليلِ تمثيلاً محتوياً على تشبيه دعوة الرسول بالسبيل ، ومتضمناً تشبيه ما يحصل عن سلوك ذلك السبيل من النجاة ببلوغ السائر إلى الموضع المقصود ، فكان حصول هذه المعاني صائراً بالإطناب إلى إيجاز ، وأما لفظ المتابعة فقد شاع إطلاقه على الاقتداء فهو غير مشعر بهذا التمثيل . وعُلِم أن هذا السبيل سبيلُ نجاح مَن تمناه لأن التمني طلب الأمر المحبوب العزيز المنال .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.