اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَيَوۡمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيۡهِ يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي ٱتَّخَذۡتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلٗا} (27)

قوله : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم } يَوْمَ معمول لمحذوف{[35952]} ، أو معطوف على «يَوْمَ تَشَقَّقُ » . و «يَعضُّ » مضارع عَضَّ ، ووزنه فَعِل بكسر العين بدليل قولهم : عَضِضْتُ أَعَضُّ . وحكى الكسائي فتحها في الماضي{[35953]} ، فعلى هذا يقال : أَعِضُّ بالكسر في المضارع . والعَضُّ هنا كناية عن شدة الندم ، ومثله : حَرَقَ نَابَهُ ، قال{[35954]} :

أَبى الضَّيْم والنُّعْمَان يَحْرِقُ نَابَهُ *** عَلَيْهِ فَأَفْضَى{[35955]} والسّيُوفُ مَعَاقِلُه{[35956]}

وهذه الكناية أبلغ من تصريح المكني عنه{[35957]} .

فصل

( أل ) في «الظَّالم » تحتمل{[35958]} العهد والجنس على خلاف في ذلك{[35959]} . فالقائلون{[35960]} بالعهد اختلفوا على قولين :

الأول : قال ابن عباس : «أراد بالظالم : عقبة بن أبي معيط بن أمية بن عبد شمس ، كان لا يقدم من سفر إلا صنع طعاماً ، ودعا إليه جيرته وأشراف قومه ، وكان يكثر مجالسة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعجبه حديثه ، فقدم ذات يوم من سفر ، فصنع{[35961]} طعاماً ، ودعا الناس ، ودعا الرسول ، فلما قرب الطعام قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ما أنا بآكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله » فقال عقبة : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد{[35962]} أَنّ محمداً رسول الله ، فأكل الرسول من{[35963]} طعامه ، وكان عقبة صديقاً لأبيّ بن خلف ، فلما أتى أُبي بن خلف قال له : يا عقبة صبأت ، قال : لا والله ما صبأت ، ولكن دخل عليّ فأبَى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له ، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له ، فطعم . فقال : ما أنا بالذي أرضى منك أبداً إلا أن تأتيه وتبزق{[35964]} في وجهه ، وتطأ على عنقه{[35965]} ، ففعل ذلك عقبة ، فقال عليه السلام{[35966]} : لا ألقاك خارجاً من مكة إلا علوتك بالسيف ، فقتل عقبة يوم بدر{[35967]} صبراً ، وأما أبيّ بن خلف فقتله النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده يوم أحد{[35968]} .

قال الضحاك : لما بزق عقبةُ في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد بزاقه{[35969]} في وجهه ، فاحترق خداه ، فكان أثر ذلك فيه حتى الموت{[35970]} .

وقال الشعبي : كان عقبة بن أبي معيط خليل أمية{[35971]} بن خلف فأسلم عقبة فقال أمية : وجهي من{[35972]} وجهك حرام إن بايعت محمداً ، فكفر وارتد ، فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ }{[35973]} يعني : عُقبة ، يقول : { يا ليتني اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً } ، أي : ليتني اتبعت محمداً فاتخذت معه سبيلاً إلى الهدى . وقرأ أبو عمرو { يَا لَيَتَنِي اتَّخَذْتُ } بفتح الياء{[35974]} ، والآخرون بإسكانها{[35975]} .

الثاني : قالت الرافضة : الظالم هو رجل بعينه ، وإن المسلمين عرفوا اسمه وكتموه ، وجعلوا فُلاناً بدلاً من اسمه ، وذكروا فاضلين من أصحاب الرسول .

ومن حمل الألف واللام على العموم ، لأنها إذا دخلت على الاسم المفرد أفادت العموم بالقرينة ، وهي أنَّ ترتيب الحكم على الوصف مشعر بعلية الوصف ، فدلّ على أنَّ المؤثر في العض على اليدين كونه ظالماً ، فيعم الحكم لعموم علته .

وهذا القول أولى من التخصيص بصورة واحدة ، ونزوله في واقعة خاصة ( لا ينافي العموم ) {[35976]} ، بل تدخل فيه تلك الصورة وغيرها . والمقصود من الآية زجر الكل عن الظلم ، وذلك لا يحصل إلا بالعموم{[35977]} .

فصل

قال الضحاك : يأكل يديه إلى المرفق ثم تنبت ، ولا يزال هكذا كلما أكلها{[35978]} نبتت{[35979]} وقال المحققون : هذه اللفظة{[35980]} للتحسر والغم ، يقال : عَضَّ أنامله{[35981]} ، وعضَّ على يديه{[35982]} .

قوله : «يَقُولُ » هذه الجملة حال من فاعل «يَعَضُّ » وجملة التمني بعد القول محكيةٌ به{[35983]} ، وتقدم الكلام في مباشرة ( يَا ) ل «لَيْتَ » في النساء{[35984]} .


[35952]:أي: اذكر. وانظر تفسير ابن عطية 11/32.
[35953]:انظر إعراب القرآن للنحاس 3/158، القرطبي 13/25، البحر المحيط 6/495.
[35954]:في ب: قوله.
[35955]:في ب: فأمضى.
[35956]:البيت من بحر الطويل، قاله زهير بن أبي سلمى في مدح حصن بن حذيفة بن بدر وقد تقدم.
[35957]:وهذه كناية عن صفة.
[35958]:في الأصل: تحمل.
[35959]:قال الزمخشري: (واللام في "الظالم" يجوز أن تكون للعهد يراد به عقبة خاصة ويجوز أن تكون للجنس، فيتناول عقبة وغيره) 3/95.
[35960]:في ب: والقائلون.
[35961]:في ب: وصنع.
[35962]:أشهد: سقط من ب.
[35963]:من: سقط من ب.
[35964]:في ب: وتبصق.
[35965]:في ب: عقبه.
[35966]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[35967]:بدر: سقط من ب.
[35968]:انظر أسباب النزول للواحدي 8/24 – 249، الفخر الرازي 24/75.
[35969]:في: ب بصاقه.
[35970]:انظر البغوي 6/172، وأسباب النزول للواحدي (249)، والقرطبي 13/26.
[35971]:في ب: أبي أمية.
[35972]:من: سقط من ب.
[35973]:انظر البغوي 6/172 – 173.
[35974]:في ب: التاء. وهو تحريف.
[35975]:السبعة (464)، الكشف 2/149، النشر 2/335، الإتحاف (329).
[35976]:ما بين القوسين سقط من ب.
[35977]:انظر الفخر الرازي 24/75 – 76. وفيه: (وأما قول الرافضة فذلك لا يتم إلا بالطعن في القرآن، وإثبات أنه غير وبدل، ولا نزاع في أنه كفر).
[35978]:في ب: كلها.
[35979]:انظر الفخر الرازي 24/76.
[35980]:في ب: القصة. وهو تحريف.
[35981]:في ب: أنامله غيظا.
[35982]:انظر الفخر الرازي 24/76.
[35983]:انظر التبيان 2/985.
[35984]:عند قوله تعالى: {يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما} [النساء: 73].