الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{وَيَوۡمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيۡهِ يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي ٱتَّخَذۡتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلٗا} (27)

أخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل بسند صحيح من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما : « أن أبا معيط كان يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة لا يؤذيه ، وكان رجلاً حليماً ، وكان بقية قريش إذا جلسوا معه آذوه ، وكان لأبي معيط خليل غائب عنه بالشام فقالت قريش : صبا أبو معيط ، وقدم خليله من الشام ليلاً فقال لامرأته : ما فعل محمد مما كان عليه ؟ فقالت : أشد مما كان أمراً فقال : ما فعل خليلي أبو معيط ؟ فقالت : صبأ . فبات بليلة سوء ، فلما أصبح أتاه أبو معيط فحياه ، فلم يرد عليه التحية فقال : ما لك . لا ترد عليَّ تحيتي ؟ فقال : كيف أرد عليك تحيتك وقد صبوت ؟ قال : أوقد فعلتها قريش ؟ ! قال : نعم . قال فما يبرئ صدورهم إن أنا فعلت قال : نأتيه في مجلسه ، وتبصق في وجهه ، وتشتمه بأخبث ما تعلمه من الشتم . ففعل ، فلم يزد النبي صلى الله عليه وسلم أن مسح وجهه من البصاق ، ثم التفت إليه فقال : إن وجدتك خارجاً من جبال مكة أضرب عنقك صبراً .

فلما كان يوم بدر ، وخرج أصحابه ، أبى أن يخرج فقال له أصحابه : أخرج معنا قال : قد وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجاً من جبال مكة أن يضرب عنقي صبراً فقالوا : لك جمل أحمر لا يُدْرَكَ ، فلو كانت الهزيمة طرت عليه ، فخرج معهم ، فلما هزم الله المشركين ، وحل به جمله في جدد من الأرض ، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيراً في سبعين من قريش ، وقدم إليه أبو معيط فقال : تقتلني من بين هؤلاء ؟ قال : نعم ، بما بصقت في وجهي ، فأنزل الله في أبي معيط { ويوم يعض الظالم على يديه } إلى قوله { وكان الشيطان للإِنسان خذولاً } » .

وأخرج أبو نعيم من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : « كان عقبة بن أبي معيط لا يقدم من سفر إلا صنع طعاماً فدعا إليه أهل مكة كلهم ، وكان يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم ويعجبه حديثه ، وغلب عليه الشقاء فقدم ذات يوم من سفر فصنع طعاماً ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعامه فقال : ما أنا بالذي آكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله . فقال : أطعم يا ابن أخي . قال : ما أنا بالذي أفعل حتى تقول . . . فشهد بذلك وطعم من طعامه .

فبلغ ذلك أُبي بن خلف فأتاه فقال : أصبوت يا عقبة ؟ - وكان خليله - فقال : لا والله ما صبوت . ولكن دخل عليّ رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلا أن أشهد له ، فاستحييت أن يخرج من بيتي قبل أن يطعم ، فشهدت له ، فطعم . فقال : ما أنا بالذي أرضى عنك حتى تأتيه فتبصق في وجهه . ففعل عقبة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ألقاك خارجاً من مكة إلا علوت رأسك بالسيف ، فأسر عقبة يوم بدر فقتل صبراً ولم يقتل من الأسارى يومئذ غيره » .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال : « كان أبي بن خلف يحضر النبي صلى الله عليه وسلم فزجره عقبة بن أبي معيط ، فنزل { ويوم يعض الظالم على يديه } إلى قوله { وكان الشيطان للإِنسان خذولاً } » .

وأخرج عبد الرزاق في المصنف وابن جرير وابن المنذر عن مقسم مولى ابن عباس قال : « إن عقبة بن أبي معيط ، وأبي بن خلف الجمحي التقيا . فقال عقبة بن أبي معيط لأبي بن خلف - وكانا خليلين في الجاهلية - وكان أبي قد أتى النبي صلى الله عليه وسلم فعرض عليه الإِسلام ، فلما سمع بذلك عقبة قال : لا أرضى عنك حتى تأتي محمداً فتتفل في وجهه وتشتمه وتكذبه . قال : فلم يسلطه الله على ذلك .

فلما كان يوم بدر ، أسر عقبة بن أبي معيط في الأسارى فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن يقتله فقال عقبة : يا محمد أمن بين هؤلاء أقتل ؟ قال : نعم . قال : بم ؟ قال : بكفرك وفجورك وعتوّك على الله وعلى رسوله ، فقام إليه علي بن أبي طالب فضرب عنقه .

وأما أبي بن خلف فقال : والله لاقتلن محمداً فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بل أنا أقتله إن شاء الله . فأفزعه ذلك فوقعت في نفسه لأنهم لم يسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قولاً إلا كان حقاً ، فلما كان يوم أحد خرج مع المشركين ، فجعل يلتمس غفلة النبي صلى الله عليه وسلم ليحمل عليه . فيحول رجل من المسلمين بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينه . فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : خلفوا عنه فأخذ الحربة فرماه بها ، فوقعت ترقوته ، فلم يخرج منه كبير دم واحتقن الدم في جوفه ، فخار كما يخور الثور فأتى أصحابه حتى احتملوه وهو يخور وقالوا : ما هذا ؟ ! فوالله ما بك إلا خدش فقال : والله لو لم يصبني إلا بريقه لقتلني أليس قد قال : أنا أقتله ، والله لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لقتلهم .

قال : فما لبث إلا يوماً أو نحو ذلك حتى مات إلى النار ، وأنزل الله فيه { ويوم يعض الظالم على يديه } إلى قوله { وكان الشيطان للإِنسان خذولاً } » .

وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن سابط قال : « صنع أبي بن خلف طعاماً ثم أتى مجلساً فيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : قوموا . فقاموا غير النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لا أقوم حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فتشهد . فقام النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه عقبة بن أبي معيط فقال : قلت : كذا وكذا قال : إنما أردت لطعامنا فذلك قوله { ويوم يعض الظالم على يديه } » .

وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { ويوم يعض الظالم على يديه } قال : « عقبة بن أبي معيط دعا مجلساً فيه النبي صلى الله عليه وسلم لطعام ، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكل وقال " لا آكل حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . فلقيه أمية بن خلف فقال : أقد صبوت ؟ فقال : إن أخاك على ما تعلم ولكن صنعت طعاماً فأبى أن يأكل حتى قلت ذلك ، فقلته وليس من نفسي " .

وأخرج ابن أبي حاتم عن هشام في قوله { ويوم يعض الظالم على يديه } قال : يأكل كفيه ندامة حتى يبلغ منكبه لا يجد مسها .

وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان في قوله { ويوم يعض الظالم على يديه } قال : يأكل يده ثم تنبت .

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي عمران الجوني في قوله { ويوم يعض الظالم على يديه } قال : بلغني أنه يعضه حتى يكسر العظم ثم يعود .