تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ} (50)

{ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ْ } أي : أفيطلبون بتوليهم وإعراضهم عنك حكم الجاهلية ، وهو كل حكم خالف ما أنزل الله على رسوله . فلا ثم إلا حكم الله ورسوله أو حكم الجاهلية . فمن أعرض عن الأول ابتلي بالثاني المبني على الجهل والظلم والغي ، ولهذا أضافه الله للجاهلية ، وأما حكم الله تعالى فمبني على العلم ، والعدل والقسط ، والنور والهدى .

{ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ْ } فالموقن هو الذي يعرف الفرق بين الحكمين ويميز -بإيقانه- ما في حكم الله من الحسن والبهاء ، وأنه يتعين -عقلا وشرعا- اتباعه . واليقين ، هو العلم التام الموجب للعمل .

{ 51 - 53 ْ } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ْ }

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ} (50)

وقوله : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المُحْكَم المشتمل على كل خير ، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات ، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله ، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات ، مما يضعونها{[9938]} بآرائهم وأهوائهم ، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان ، الذي وضع لهم اليَساق{[9939]} وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى ، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية ، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه ، فصارت في بنيه شرعًا متبعًا ، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله ، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله [ صلى الله عليه وسلم ]{[9940]} فلا يحكم سواه{[9941]} في قليل ولا كثير ، قال الله تعالى : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } أي : يبتغون ويريدون ، وعن حكم الله يعدلون . { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي : ومن أعدل من الله في حكمه لمن عَقل عن الله شرعه ، وآمن به وأيقن وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين ، وأرحم بخلقه{[9942]} من الوالدة بولدها ، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء ، القادر على كل شيء ، العادل في كل شيء .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هلال بن فياض ، حدثنا أبو عبيدة الناجي{[9943]} قال : سمعت الحسن يقول : من حكم بغير حكم الله ، فحكم الجاهلية [ هو ]{[9944]}

وأخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نَجِيح قال : كان طاوس إذا سأله رجل : أفضِّل بين ولدي في النحْل ؟ قرأ : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ [ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ] }{[9945]}

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نَجْدة الخوطي ، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع ، أخبرنا شعيب بن أبي حمزة ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين ، عن نافع بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبغض الناس إلى الله ، عز وجل ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية ، وطالب دم امرئ بغير حق ليُرِيق دمه " . وروى البخاري ، عن أبي اليمان بإسناده{[9946]} نحوه . {[9947]}


[9938]:في أ: "بما صنعوا".
[9939]:في ر، أ: "الياسق".
[9940]:زيادة من ر.
[9941]:في أ: "بسواه".
[9942]:في د: "بعباده".
[9943]:في د، أ: "الباجي".
[9944]:زيادة من ر، أ.
[9945]:زيادة من ر، د، أ.
[9946]:في ر، أ: "بزيادة".
[9947]:المعجم الكبير (10/374) وصحيح البخاري برقم (6882).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ} (50)

{ أفحكم الجاهلية يبغون } الذي هو الميل والمداهنة في الحكم ، والمراد بالجاهلية الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى . وقيل نزلت في بني قريظة والنضير طلبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى . وقرئ برفع الحكم على أنه مبتدأ ، و{ يبغون } خبره ، والراجع محذوف حذفه في الصلة في قوله تعالى : { أهذا الذي بعث الله رسولا } واستضعف ذلك في غير الشعر وقرئ أفحكم الجاهلية أي يبغون حاكما كحكام الجاهلية يحكم بحسب شهيتهم . وقرأ ابن عامر " تبغون " بالتاء على قل لهم أفحكم الجاهلية تبغون . { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } أي عندهم ، واللام للبيان كما في قوله تعالى : { هيت لك } أي هذا الاستفهام لقوم يوقنون فإنهم هم الذين يتدبرون الأمور ويتحققون الأشياء بأنظارهم فيعلمون أن لا أحسن حكما من الله سبحانه وتعالى .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ} (50)

فَرّعت الفاء على مضمون قوله : { فإن تولّوا فاعلم } [ المائدة : 49 ] الخ استفهاماً عن مرادهم من ذلك التولّي ، والاستفهام إنكاري ، لأنّهم طلبوا حكم الجاهليّة . وحكم الجاهليّة هو ما تقرّر بين اليهود من تكايُل الدّماء الّذي سرى إليهم من أحكام أهل يثرب ، وهم أهلُ جاهلية ، فإنّ بني النضير لم يرضوا بالتساوي مع قريظة كما تقدّم ؛ وما وضعوه من الأحكام بين أهل الجاهلية ، وهو العدول عن الرجم الّذي هو حكم التّوراة .

وقرأ الجمهور { يَبغون } بياء الغائب ، والضمير عائد ل { مَن } من قوله : { ومَنْ لم يحكم بما أنزل الله } [ المائدة : 47 ] . وقرأ ابن عامر بتاء الخطاب على أنّه خطاب لليهود على طريقة الالتفات .

والواو في قوله : { ومن أحسن من الله حكماً } واو الحال ، وهو اعتراض ، والاستفهام إنكاري في معنى النفي ، أي لا أحسن منه حكماً . وهو خطاب للمسلمين ، إذ لا فائدة في خطاب اليهود بهذا .

وقوله : { لقوم يوقنون } اللام فيه ليست متعلّقة ب { حكماً } إذ ليس المراد بمدخولها المحكومَ لهم ، ولا هي لام التّقوية لأنّ { لقوم يوقنون } ليس مفعولاً ل { حُكماً } في المعنى . فهذه اللامُ تُسمّى لام البيان ولام التبيين ، وهي الّتي تدخل على المقصود من الكلام سواء كان خبراً أم إنشاء ، وهي الواقعة في نحو قولهم : سَقْيَاً لك ، وَجَدْعاً له ، وفي الحديث « تبّاً وسُحقاً لمن بَدّل بَعْدي » ، وقوله تعالى : { هيهات هيهات لِما توعدون } [ المؤمنون : 36 ] { حاش لله } [ يوسف : 51 ] . وذلك أنّ المقصود التّنبيه على المراد من الكلام . ومنه قول تعالى عن زليخا { وقالت هيتَ لك } [ يوسف : 23 ] لأنّ تهيّؤَها له غريب لا يخطر ببال يوسف فلا يدري ما أرادت فقالت له { هيت لك } [ يوسف : 23 ] ، إذا كان ( هيت ) اسمَ فِعْلِ مُضي بمعنى تهيّأتُ ، ومثل قوله تعالى هنا : { ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } . وقد يكون المقصود معلوماً فيخشى خفاؤه فيؤتى باللام لزيادة البيان نحو { حاشَ لله } [ يوسف : 51 ] ، وهي حينئذٍ جديرة باسم لام التبيين ، كالداخلة إلى المواجه بالخطاب في قولهم : سَقياً لك ورعياً ، ونحوهما ، وفي قوله : { هِيتَ } [ يوسف : 23 ] اسمَ فعل أمر بمعنى تَعالَ . وإنّما لم تجعل في بعض هذه المواضع لام تقوية ، لأنّ لام التّقوية يصحّ الاستغناء عنها مع ذكر مدخولها ، وَفي هذه المواضع لا يذكر مدخول اللام إلاّ معها .