ثم أخبر تعالى عن قدرته{[16444]} على ما يشاء ، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، وإنما أمره إذا{[16445]} أراد شيئًا أن يقول له : " كن " ، فيكون ، والمعاد من ذلك إذا أراد كونه فإنما يأمر به مرة واحدة ، فيكون كما يشاء ، كما قال{[16446]} { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [ القمر : 50 ] وقال : { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ لقمان : 28 ] ، وقال في هذه الآية الكريمة : { إِنَّمَا قَوْلُنَا{[16447]} لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] ، أي : أن يأمر به دفعة{[16448]} واحدة فإذا هو كائن ،
كما قال الشاعر{[16449]} :
إذا ما أراد الله أمرًا فإنما *** يقول له : " كن " ، قولة فيكون
أي : أنه تعالى لا يحتاج إلى تأكيد فيما يأمر به ، فإنه تعالى لا يمانع ولا يخالف ، لأنه [ هو ]{[16450]} الواحد القهار العظيم ، الذي قهر سلطانه وجبروته وعزته كل شيء ، فلا إله إلا هو ولا رب سواه .
وقال ابن أبي حاتم : ذكر{[16451]} الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا حجاج ، عن ابن جُرَيْج ، أخبرني عطاء : أنه سمع أبا هريرة يقول : قال الله تعالى : سَبَّني ابن آدم ولم يكن ينبغي له أن يسبني ، وكذبني ولم يكن ينبغي له أن يكذبني ، فأما تكذيبه إياي فقال : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ } قال : وقلت : { بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } وأما سبه إياي فقال : { إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ } [ المائدة : 73 ] ، وقلت : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [ سورة الإخلاص ]{[16452]} .
هكذا{[16453]} ذكره موقوفا ، وهو في الصحيحين مرفوعا ، بلفظ آخر{[16454]} .
القول في تأويل قوله تعالى { إِنّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَالّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوّئَنّهُمْ فِي الدّنْيَا حَسَنَةً وَلأجْرُ الاَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : إنا إذا أردنا أن نبعث من يموت فلا تعب علينا ولا نصب في إحيائناهم ، ولا في غير ذلك مما نخلق ونكوّن ونحدث لأنا إذا أردنا خلقه وإنشاءه فإنما نقول له كن فيكون ، لا معاناة فيه ولا كُلفة علينا .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : «يكون » فقرأه أكثر قرّاء الحجاز والعراق على الابتداء ، وعلى أن قوله : إنّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذَا أرَدْناهُ أنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ كلام تامّ مكتف بنفسه عما بعده ، ثم يبتدأ فيقال : «فيكونُ » ، كما قال الشاعر :
*** يُريدُ أنْ يُعْرِبَهُ فيعجِمُهْ ***
وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل الشام وبعض المتأخرين من قرّاء الكوفيين : «فَيَكُونَ » نصبا ، عطفا على قوله : أنْ نَقُولَ لَهُ . وكأن معنى الكلام على مذهبهم : ما قولنا لشيء إذا أردناه إلاّ أن نقول له : كن ، فيكون . وقد حُكي عن العرب سماعا : أريد أن آتيك فيَمْنَعَني المطر ، عطفا ب «يَمْنَعَني » على «آتيك » .
ثم قال { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } وهو بيان إمكانية وتقريره أن تكوين الله بمحض قدرته ومشيئته لا توقف له على سبق المواد والمدد ، وإلا لزم التسلسل فكما أمكن له تكوين الأشياء ابتداء بلا سبق مادة ومثال أمكن له تكوينها إعادة بعده ، ونصب ابن عامر و الكسائي ها هنا وفي " يس " فيكون عطفا على نقول أو جوابا للأمر .
هذه الجملة متّصلة بجملة { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [ سورة النحل : 38 ] لبيان أنّ جهلهم بمَدى قدرة الله تعالى هو الذي جرّأهم على إنكار البعث واستحالته عندهم ، فهي بيان للجملة التي قبلها ولذلك فُصلت ، ووقعتْ جملة { ليبين لهم الذين يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا } [ سورة النحل : 39 ] إلى آخرها اعتراضاً بين البيان والمبيّن .
والمعنى أنه لا يتوقف تكوين شيء إذا أراده الله إلا على أن تتعلّق قدرته بتكوينه . وليس إحياء الأموات إلا من جملة الأشياء ، وما البعث إلا تكوين ، فما بَعْث الأموات إلا من جملة تكوين الموجودات ، فلا يخرج عن قدرته .
وأفادت { إنّما } قصراً هو قصر وقوع التّكوين على صدور الأمر به ، وهو قصر قلب لإبطال اعتقاد المشركين تعذّر إحياء الموتى ظنّاً منهم أنّه لا يحصل إلا إذا سلمت الأجساد من الفساد كما تقدم آنفاً ، فأريد ب { قولنا لشيء } تكوينُنا شيئاً ، أي تعلّق القدرة بخلق شيء . وأريد بقوله : { إذا أردناه } إذا تعلّقت به الإرادة الإلهية تعلّقاً تنجيزياً ، فإذا كان سبب التكوين ليس زائداً على قول { كن } فقد بطل تعذّر إحياء الموتى . ولذلك كان هذا قصر قلب لإبطال اعتقاد المشركين .
والشيء : أطلق هنا على المعدوم باعتبار إرادة وجوده ، فهو من إطلاق اسم ما يؤول إليه ، أو المرادُ بالشيء مطلق الحقيقة المعلومة وإن كانت معدومة ، وإطلاق الشيء على المعدوم مستعمل .
و { أن نقول له كن } خبر عن { قولنا } .
والمراد بقول { كن } توجّه القدرة إلى إيجاد المقدور . عُبر عن ذلك التوجّه بالقول بالكلام كما عبّر عنه بالأمر في قوله : { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } [ سورة يس : 82 ] وشبّه الشيء الممكن حصوله بشخص مأمور ، وشبّه انفعال الممكن لأمْرِ التكوين بامتثال المأمور لأمر الآمر . وكلّ ذلك تقريب للناس بما يعقلون ، وليس هو خطاباً للمعدوم ولا أن للمعدوم سمعاً يعقل به الكلام فيمتثل للآمر .
وقرأ الجمهور { فيكون } بالرفع أي فهو يكون ، عطفاً على الخبر وهو جملة { أن نقول } . وقرأ ابن عامر والكسائي بالنصب عطفاً على { نقول } ، أي أن نقول له كُن وأن يكون .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.