{ و ْ } آتيناه أيضا { حَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ْ } أي : رحمة ورأفة ، تيسرت بها أموره ، وصلحت بها أحواله ، واستقامت بها أفعاله .
{ وَزَكَاةً ْ } أي : طهارة من الآفات والذنوب ، فطهر قلبه وتزكى عقله ، وذلك يتضمن زوال الأوصاف المذمومة ، والأخلاق الرديئة ، وزيادة الأخلاق الحسنة ، والأوصاف المحمودة ، ولهذا قال : { وَكَانَ تَقِيًّا ْ } أي : فاعلا للمأمور ، تاركا للمحظور ، ومن كان مؤمنا تقيا كان لله وليا ، وكان من أهل الجنة التي أعدت للمتقين ، وحصل له من الثواب الدنيوي والأخروي ، ما رتبه الله على التقوى .
وقوله : { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } يقول : ورحمة من عندنا ، وكذا قال عكرمة ، وقتادة ، والضحاك وزاد : لا يقدر عليها غيرنا . وزاد قتادة : رُحِم بها زكريا .
وقال مجاهد : { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } وتعطفًا من ربه عليه .
وقال عكرمة : { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } [ قال : محبة عليه . وقال ابن زيد : أما الحنان فالمحبة . وقال عطاء بن أبي رباح : { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } ]{[18702]} ، قال : تعظيمًا من لدنا{[18703]} .
وقال ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار ، أنه سمع عكرمة عن ابن عباس قال : لا والله ما أدري{[18704]} ما حنانًا .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن منصور : سألت سعيد بن جبير عن قوله : { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } ، فقال : سألت عنها عباس ، فلم يحر{[18705]} فيها شيئًا .
والظاهر من هذا السياق أن : { وَحَنَانًا [ مِنْ لَدُنَّا ] }{[18706]} معطوف على قوله : { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا } أي : وآتيناه الحكم وحنانا ، { وَزَكَاةً } أي : وجعلناه ذا حنان وزكاة ، فالحنان هو المحبة في شفقة وميل كما تقول العرب : حنّت الناقة على ولدها ، وحنت المرأة على زوجها . ومنه سميت المرأة " حَنَّة " من الحَنَّة ، وحن الرجل إلى وطنه ، ومنه التعطف والرحمة ، كما قال الشاعر{[18707]}
تَحنَّنْ{[18708]} عَلَي هَدَاكَ المليكُ *** فإنَّ لكُل مَقامٍ مَقَالا
وفي المسند للإمام أحمد ، عن أنس ، رضي الله عنه ، أن{[18709]} رسول الله صلى الله عليه قال : " يبقى رجل في النار ينادي ألف سنة : يا حنان يا منان " {[18710]}
وقد يُثنَّي{[18711]} ومنهم من يجعل ما ورد من{[18712]} ذلك لغة بذاتها ، كما قال طرفة :
أَنَا مُنْذر أفنيتَ فاسْتبق بَعْضَنَا *** حَنَانَيْك بَعْض الشَّر أهْونُ مِنْ بَعْض{[18713]}
وقوله : { وَزَكَاةً } معطوف على { وَحَنَانًا } فالزكاة الطهارة من الدنس والآثام والذنوب .
وقال قتادة : الزكاة{[18714]} العمل الصالح .
وقال الضحاك وابن جريج : العمل الصالح الزكي .
وقال العوفي عن ابن عباس : { وَزَكَاةً } [ قال : بركة ]{[18715]} { وَكَانَ تَقِيًّا } طهر ، فلم يعمل بذنب .
وقوله : وَحَنانا مِنْ لَدُنّا يقول تعالى ذكره : ورحمة منا ومحبة له آتيناه الحكم صبيا .
وقد اختلف أهل التأويل في معنى الحنان ، فقال بعضهم : معناه : الرحمة ، ووجهوا الكلام إلى نحو المعنى الذي وجهناه إليه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَحَنانا مِنْ لَدُنّا يقول : ورحمة من عندنا .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن سماك ، عن عكرمة ، في هذه الاَية وَحَنانا مِنْ لَدُنّا قال : رحمة .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَحَنانا مِنْ لَدُنّا قال : رحمة من عندنا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، قوله : وَحَنانا مِنْ لَدُنّا قال : رحمة من عندنا لا يملك عطاءها أحد غيرنا .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله وَحَنانا مِنْ لَدُنّا يقول : رحمة من عندنا ، لا يقدر على أن يعطيها أحد غيرنا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ورحمة من عندنا لزكريا ، آتيناه الحكم صبيا ، وفعلنا به الذي فعلنا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَحَنانا مِنْ لَدُنّا يقول : رحمة من عندنا .
وقال آخرون : معنى ذلك : وتعطفا من عندنا عليه ، فعلنا ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَحَنانا مِنْ لَدُنّا قال : تعطفا من ربه عليه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : بل معنى الحنان : المحبة . ووجهوا معنى الكلام إلى : ومحبة من عندنا فعلنا ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن يحيى بن سعيد ، عن عكرمة وَحَنانا مِنْ لَدُنّا قال : محبة عليه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَحَنانا قال : أما الحَنان فالمحبة .
وقال آخرون معناه تعظيما منا له . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن عطاء بن أبي رباح وَحَنانا مِنْ لَدُنّا قال : تعظيما من لدنا . وقد ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لا أدري ما الحنان .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : والله ما أدري ما حنانا .
وللعرب في حَنَانَك لغتان : حَنَانَك يا ربنا ، وحَنانَيك كما قال طَرَفة بن العبد في حنانيك :
أبا مُنْذِرٍ أفْنَيْتَ فاسْتَبْقِ بَعْضَنا *** حَنانَيْكَ بعضُ الشّرّ أهْوَنُ مِن بعض
وقال امرؤ القيس في اللغة الأخرى :
ويَمْنَحُها بَنُو شَمَجَي بْنِ جَرْمٍ *** مَعِيزَهُمُ حَنانَكَ ذَا الحَنانِ
وقد اختلف أهل العربية في «حنانيك » فقال بعضهم : هو تثنية «حنان » . وقال آخرون : بل هي لغة ليست بتثنية قالوا : وذلك كقولهم : حَوَاليك وكما قال الشاعر :
*** ضَرْبا هَذَا ذَيْكَ وطَعْنا وَخْضا ***
وقد سوّي بين جميع ذلك الذين قالوا حنانيك تثنية ، في أن كل ذلك تثنية . وأصل ذلك أعني الحنان ، من قول القائل : حنّ فلان إلى كذا ، وذلك إذا ارتاح إليه واشتاق ، ثم يقال : تحّننَ فلان على فلان ، إذا وصف بالتعطّف عليه والرقة به ، والرحمة له ، كما قال الشاعر :
تَحَنّنْ عَليّ هَدَاكَ المَلِيكُ *** فإنّ لِكُلّ مَقامٍ مَقالا
بمعنى : تعطّف عليّ . فالحنان : مصدر من قول القائل : حنّ فلان على فلان ، يقال منه : حننت عليه ، فأنا أحنّ عليه حنينا وحنانا ، ومن ذلك قيل لزوجة الرجل : حَنّته ، لتحننه عليها وتعطفه ، كما قال الراجز :
وَلَيْلَةٍ ذَاتِ دُجىً سَرَيْتُ *** ولَم تَضِرْنِي حَنّةٌ وَبَيْتُ
وقوله : وَزَكَاةً يقول تعالى ذكره : وآتينا يحيى الحكم صبيا ، وزكاة : وهو الطهارة من الذنوب ، واستعمال بدنه في طاعة ربه ، فالزكاة عطف على الحكم من قوله : وآتَيْناهُ الحُكْمَ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وزَكاةً قال : الزكاة : العمل الصالح .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : وزَكاةً قال : العمل الصالح الزكيّ .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : في قوله وزَكاةً يعني العمل الصالح الزاكيّ .
وقوله : وكانَ تَقِيّا يقول تعالى ذكره : وكان لله خائفا مؤدّيا فرائضه ، مجتنبا محارمه مسارعا في طاعته . كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وَزَكاةً وكانَ تَقِيّا قال : طهر فلم يعمل بذنب .
حدثني يونس ، قال : خبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَزَكاةً وكانَ تَقِيّا قال : أما الزكاة والتقوى فقد عرفهما الناس .
الحَنان : الشفقة . ومن صفات الله تعالى الحنان . ومن كلام العرب : حنانيك ، أي حناناً منك بعد حنان . وجُعل حنان يحيى من لَدن الله إشارة إلى أنه متجاوز المعتاد بين الناس .
والزكاة : زكاة النفس ونقاؤها من الخبائث ، كما في قوله تعالى : { فقل هل لك إلى أن تزكى } [ النازعات : 18 ] أو أُريد بها البركة .
وتقي : فعيل بمعنى مُفعل ، من اتّقى إذا اتّصف بالتقوى ، وهي تجنب ما يخالف الدّين . وجيء في وصفه بالتقوى بفعل { كَانَ تَقِيّاً } للدلالة على تمكنه من الوصف .