{ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } وهذا شامل عام للخير .
{ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ }والشر كله ؛ لأنه إذا رأى مثقال الذرة التي هي أحقر الأشياء ، [ وجوزي عليها ] فما فوق ذلك من باب أولى وأحرى ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا } { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا }
وهذه الآية فيها غاية الترغيب في فعل الخير ولو قليلًا ، والترهيب من فعل الشر ولو حقيرًا .
قال البخاري : حدثنا إسماعيل بن عبد الله ، حدثني مالك عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح السَّمان ، عن أبي هُرَيرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الخيل لثلاثة : لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر ؛ فأما الذي له أجر ، فرجل ربطها في سبيل الله فأطال طِيَلها في مرج أو روضة ، فما أصابت في طِيَلها ذلك في المرج والروضة كان له حسنات ، ولو أنها قطعت طِيَلها فاستنَّت شَرَفا أو شرفين ، كانت آثارها وأرواثها حسنات له ، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يَسقَى به كان ذلك حسنات له ، وهي لذلك الرجل أجر . ورجل ربطها تَغَنيا وتعففا ، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها ، فهي له ستر . ورجل ربطها فخرًا ورئاء ونواء ، فهي على ذلك وزر " . فسُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحُمُر ، فقال : " ما أنزل الله فيها شيئًا إلا هذه الآية الفاذة الجامعة : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } {[30390]} . ورواه مسلم ، من حديث زيد بن أسلم ، به{[30391]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا جرير بن حازم ، حدثنا الحسن ، عن صعصعة بن معاوية - عم الفرزدق - : أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } قال : حسبي ! لا أبالي ألا أسمع غيرها{[30392]} . وهكذا رواه النسائي في التفسير ، عن إبراهيم بن يونس بن محمد المؤدب ، عن أبيه ، عن جرير بن حازم ، عن الحسن البصري قال : حدثنا صعصعةُ عم الفرزدق ، فذكره{[30393]} .
وفي صحيح البخاري ، عن عَدي مرفوعا : " اتقوا النار ولو بِشِقِّ تمرة ، ولو بكلمة طيبة " {[30394]} وفي الصحيح : " لا تَحْقِرَنَّ من المعروف شيئا ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي ، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط " {[30395]} ، وفي الصحيح أيضا : " يا نساء {[30396]} المؤمنات ، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فِرْسَنَ شاة " {[30397]} يعني : ظلفها . وفي الحديث الآخر : " ردوا السائل ولو بظلْف مُحَرق " {[30398]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، حدثنا كثير بن زيد ، عن المطلب بن عبد الله ، عن عائشة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا عائشة ، استتري من النار ولو بشق تمرة ، فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان " . تفرد به أحمد{[30399]} .
ورُويَ عن عائشة أنها تصدقت بعنبة ، وقالت : كم فيها من مثقال ذرة{[30400]} .
وقال أحمد : حدثنا أبو عامر ، حدثنا سعيد بن مسلم ، سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير : حدثني عوف بن الحارث بن الطفيل : أن عائشة أخبرته : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : " يا عائشة ، إياك ومحقرات الذنوب ، فإن لها من الله طالبا " . ورواه النسائي وابن ماجة ، من حديث سعيد بن مسلم بن بَانَك ، به{[30401]} .
وقال ابن جرير : حدثني أبو الخطاب الحساني ، حدثنا الهيثم بن الربيع ، حدثنا سماك بن عطية ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس قال : كان أبو بكر يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ }{[30402]} فرفع أبو بكر يده وقال : يا رسول الله ، إني أُجزى بما عملتُ من مثقال ذرة من شر ؟ فقال : " يا أبا بكر ، ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر ويدخر الله لك مثاقيل ذَر الخير حتى تُوفَاه يوم القيامة " {[30403]} .
ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه [ عن ]{[30404]} أبي الخطاب ، به . ثم قال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا أيوب قال : في كتاب أبي قِلابة ، عن أبي إدريس : أن أبا بكر كان يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره{[30405]} .
ورواه أيضًا عن يعقوب ، عن ابن عُلَيَّة ، عن أيوب ، عن أبي قلابة : أن أبا بكر ، وذكره .
طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني حُيَي بن عبد الله ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : لما نزلت : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا } وأبو بكر الصديق ، رضي الله عنه ، قاعد ، فبكى حين أنزلت ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما يبكيك يا أبا بكر ؟ " . قال : يبكيني هذه السورة . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا أنكم تخطئون وتذنبون ، فيغفر الله لكم ، لخلق الله أمة يخطئون ويذنبون فيغفر لهم " {[30406]} .
حديث آخر : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة وعلي بن عبد الرحمن بن [ محمد بن ]{[30407]} المغيرة - المعروف بعلان المصري - قالا : حدثنا عمرو بن خالد الحرَّاني ، حدثنا ابن لَهِيعة ، أخبرني هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري قال : لما أنزلت : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } قلت : يا رسول الله ، إني لراء عملي ؟ قال : " نعم " . قلت : تلك الكبار الكبار ؟ قال : " نعم " . قلت : الصغار الصغار ؟ قال : " نعم " . قلت : واثُكلَ أُمي . قال : " أبشر يا أبا سعيد ؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها - يعني إلى سبعمائة ضعف - ويضاعف الله لمن يشاء ، والسيئة بمثلها أو يغفر الله ، ولن ينجو أحد منكم بعمله " . قلت : ولا أنت يا رسول الله{[30408]} ؟ قال : " ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله منه برحمة " {[30409]} قال أبو زُرْعَة : لم يرو هذا غير ابن لَهِيعة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر ، حدثني ابن لهيعة ، حدثني{[30410]} عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جبير في قوله تعالى : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } وذلك لما نزلت هذه الآية : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } [ الإنسان : 8 ] ، كان المسلمون يرون أنهم لا يُؤجَرون على الشيء القليل الذي أعطوه ، فيجيء المسكين إلى أبوابهم فيستقلون أن يعطوه التمرة والكسرة والجَوْزة ونحو ذلك ، فيردونه ويقولون : ما هذا بشيء ، إنما نُؤجَر على ما نعطي ونحن نحبه . وكان آخرون يَرَون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير : الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك ، يقولون : إنما وعد الله النار على الكبائر . فرغبهم في القليل من الخير أن يعملوه ، فإنه يوشك أن يكثر ، وحذرهم اليسير من الشر ، فإنه يوشك أن يكثر ، فنزلت : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } يعني : وزن أصغر النمل { خَيْرًا يَرَهُ } يعني : في كتابه ، ويَسُرُّه ذلك . قال : يكتب لكل بر وفاجر بكل سيئة سيئة واحدة . وبكل حسنة عشر حسنات ، فإذا كان يوم القيامة ضاعف الله حسنات المؤمنين أيضًا ، بكل واحدة عشر ، ويمحو عنه بكل حسنة عشر سيئات ، فمن زادت حسناته على سيئاته مثقال ذرة ، دخل الجنة .
وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا عمران ، عن قتادة ، عن عبد ربه ، عن أبي عياض ، عن عبد الله بن مسعود ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم ومحقرات الذنوب ، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه " . وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلا كمثل قوم نزلوا أرض فلاة ، فحضر صَنيع القوم ، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود ، والرجل يجيء بالعود ، حتى جمعوا سوادا ، وأجَّجوا نارًا ، وأنضجوا ما قذفوا فيها{[30411]} .