محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ} (7)

{ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } أي فمن عمل في الدنيا وزن ذرة من خير يرى ثوابه هنالك ، والذرة النملة الصغيرة ، وهي مثل في الصغر ، وقيل : الذرة هو الهباء الذي يرى في ضوء الشمس إذا دخلت من نافذة .

{ ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } أي ومن كان عمل في الدنيا وزن ذرة من شر يرى جزاءه ثمة .

تنبيهات : الأول دل لفظ ( من ) على شمول الجزاء بقسميه للمؤمن وغيره ، قال الإمام : أي من يعمل من الخير أدنى عمل وأصغره فإنه يراه ، ويجد جزاءه ، لا فرق في ذلك بين المؤمن والكافر ، غاية الأمر أن حسنات الكفار الجاحدين لا تصل بهم إلى أن تخلصهم من عذاب الكفر ، فهم به خالدون في الشقاء ، والآيات التي تنطق بحبوط أعمال الكفار ، وأنها لا تنفعهم ، معناها هو ما ذكرنا ، أي أن عملا من أعمالهم لا ينجيهم من عذاب الكفر ، وإن خفف عنهم بعض العذاب الذي كان يرتقبهم على بقية السيئات الأخرى ، أما عذاب الكفر نفسه فلا يخفف عنهم منه شيء ، كيف لا والله جل شانه يقول{[1]} { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين } فقوله { فلا تظلم نفس شيئا } أصرح قول في أن الكافر والمؤمن في ذلك سواء ، وإن كلا يوفى في يوم القيامة جزاءه . وقد ورد أن حاتما يخفف عنه لكرمه ، وأن أبا لهب يخفف عنه لسروره بولادة النبي صلى الله عليه وسلم ، وما نقله بعضهم من الإجماع على أن الكافر لا تنفعه في الآخرة حسنة ، ولا يخفف عنه عذاب سيئة ، ما لا أصل له ، فقد قال بما قلناه كثير من أئمة السلف رضي الله عنهم . على أن كلمة ( الإجماع ) كثيرا ما يتخذها الجهلاء السفهاء آلة لقتل روح الدين ، وحجرا يلقمونه أفواه المتكلمين ، وهم لا يعرفون للإجماع الذي تقوم به الحجة معنى ، فبئس ما يصنعون . انتهى .

وقد سبقه الشهاب في ( حواشيه ) على القاضي ، حيث ناقش صاحب المقاصد في دعواه الإجماع على إحباط عمل الكفرة ، وعبارته : كيف يدعي الإجماع على الإحباط بالكلية ، وهو مخالف لما صرح به في الآية ؟ والذي يلوح للخاطر يعد استكشاف سرائر الدفاتر أن الكفار يعذبون على الكفر بحسب مراتبه ، فليس عذاب أبي طالب كعذاب أبي جهل ، ولا عذاب المعطلة كعذاب أهل الكتاب ، كما تقتضيه الحكمة والعدل الإلهي . انتهى .

الثاني : قال في ( الإكليل ) : في هاتين الآيتين الترغيب في قليل الخير وكثيره ، والتحذير من قليل الشر وكثيره ، أخرج عبد الرزاق عن ابن مسعود قال : " هذه الآية أحكم آية في القرآن " ، وفي لفظ ( أجمع ) .

وسمى{[2]} رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية الجامعة الفاذة ، حين سئل عن زكاة الحمير فقال : " ما أنزل الله فيها شيئا إلا هذه الآية الجامعة الفاذة { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } ، وروى الإمام أحمد{[3]} عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق " أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } الخ ، قال : حسبي ، لا أبالي أن لا أسمع غيرها " ، ورواه النسائي في تفسيره .


[1]:(4 النساء 15 و 16).
[2]:(24 النور 2).
[3]:(2 البقرة 282).