تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلۡأَنفُسَ حِينَ مَوۡتِهَا وَٱلَّتِي لَمۡ تَمُتۡ فِي مَنَامِهَاۖ فَيُمۡسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيۡهَا ٱلۡمَوۡتَ وَيُرۡسِلُ ٱلۡأُخۡرَىٰٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمًّىۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (42)

{ 42 } { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }

يخبر تعالى أنه المتفرد بالتصرف بالعباد ، في حال يقظتهم ونومهم ، وفي حال حياتهم وموتهم ، فقال : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } وهذه الوفاة الكبرى ، وفاة الموت .

وإخباره أنه يتوفى الأنفس وإضافة الفعل إلى نفسه ، لا ينافي أنه قد وكل بذلك ملك الموت وأعوانه ، كما قال تعالى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ } لأنه تعالى يضيف الأشياء إلى نفسه ، باعتبار أنه الخالق المدبر ، ويضيفها إلى أسبابها ، باعتبار أن من سننه تعالى وحكمته أن جعل لكل أمر من الأمور سببا .

وقوله : { وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } وهذه الموتة الصغرى ، أي : ويمسك النفس التي لم تمت في منامها ، { فَيُمْسِكُ } من هاتين النفسين النفس { الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ } وهي نفس من كان مات ، أو قضي أن يموت في منامه .

{ وَيُرْسِلُ } النفس { الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } أي : إلى استكمال رزقها وأجلها . { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } على كمال اقتداره ، وإحيائه الموتى بعد موتهم .

وفي هذه الآية دليل على أن الروح والنفس جسم قائم بنفسه ، مخالف جوهره جوهر البدن ، وأنها مخلوقة مدبرة ، يتصرف اللّه فيها في الوفاة والإمساك والإرسال ، وأن أرواح الأحياء والأموات تتلاقى في البرزخ ، فتجتمع ، فتتحادث ، فيرسل اللّه أرواح الأحياء ، ويمسك أرواح الأموات .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلۡأَنفُسَ حِينَ مَوۡتِهَا وَٱلَّتِي لَمۡ تَمُتۡ فِي مَنَامِهَاۖ فَيُمۡسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيۡهَا ٱلۡمَوۡتَ وَيُرۡسِلُ ٱلۡأُخۡرَىٰٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمًّىۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (42)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{الله يتوفى الأنفس حين موتها}: عند أجلها، يعني التي قضى الله عليها الموت، فيمسكها على الجسد في التقديم.

{والتي لم تمت في منامها} فتلك الأخرى التي يرسلها إلى الجسد.

{فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات} لعلامات.

{لقوم يتفكرون} في أمر البعث.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: ومن الدلالة على أن الألوهة لله الواحد القهار خالصة دون كلّ ما سواه، أنه يميت ويحيي، ويفعل ما يشاء، ولا يقدر على ذلك شيء سواه فجعل ذلك خبرا نبههم به على عظيم قُدرته، فقال:"اللّهُ يَتَوَفّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِها" فيقبضها عند فناء أجلها، وانقضاء مدة حياتها، ويتوفى أيضا التي لم تمت في منامها، كما التي ماتت عند مماتها، "فَيُمْسِكُ التي قَضَى عَلَيْها المَوْتَ"؛ ذُكر أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام، فيتعارف ما شاء الله منها، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى أجسادها أمسك الله أرواح الأموات عنده وحبسها، وأرسل أرواح الأحياء حتى ترجع إلى أجسادها "إلى أجل مسمى "وذلك إلى انقضاء مدة حياتها...

وقوله: "إنّ فِي ذلكَ لآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ" يقول تعالى ذكره: إن في قبض الله نفس النائم والميت وإرساله بعدُ نَفْسَ هذا ترجع إلى جسمها، وحبسه لغيرها عن جسمها لعبرةً وعظة لمن تفكر وتدبر، وبيانا له أن الله يحيي من يشاء من خلقه إذا شاء، ويميت من شاء إذا شاء.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

يحتمل أن يكون المراد بهذا أن الدليل يدل على أن الواجب على العاقل أن يعبد إلها موصوفا بهذه القدرة وبهذه الحكمة، وأن لا يعبد الأوثان التي هي جمادات لا شعور لها ولا إدراك،...

التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :

يرسل الأنفس النائمة وإرسالها هو ردها إلى الدنيا، والأجل المسمى هو أجل الموت الحقيقي، وقد تكلم الناس في النفس والروح وأكثروا القول في ذلك بالظن دون تحقيق، والصحيح أن هذا مما استأثر الله بعلمه لقوله: {قل الروح من أمر ربي}

[الإسراء:85]...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان الوكيل في الشيء لا تصلح وكالته فيه إلا إن كان قادراً عليه بطريق من الطرق، وكان حفظهم على الهدى وعن الضلال لا يكون عليه إلا لحاضر لا يغيب ولا يعتريه نوم ولا يطرقه موت، لم تصح وكالة أحد من الخلق فيه، وكان كأنه قيل: لأنه لو وكل إليك أمرهم لضاعوا عند نومك وموتك، فدل عليه بما أدى معناه وزاد عليه من الفوائد ما يعرف بالتأمل من تشبيه الهداية بالحياة واليقظة والضلال بالموت والنوم، فكما أنه لا يقدر على الإماتة والإنامة إلا الله، فكذلك لا يقدر على الهداية والإضلال إلا الله، فمن عرف هذه الدقيقة عرف سر الله في القدرة، ومن عرف السر فيه هانت عليه المصائب، فهي تسلية له صلى الله عليه وسلم، لفت القول إلى التعبير بالاسم الأعظم لاقتضاء الحال له، وأسند التوفي إليه سبحانه لأنه في بيان أنه لا يصلح للوكالة غيره أصلاً، فقال: {الله} أي الذي له مجامع الكمال، وليس لشائبة نقص إليه سبيل.

{يتوفى الأنفس} التي ماتت عند انقضاء آجالها، أي يفعل في وفاتها فعل من يجتهد في ذلك بأن يقبضها وافية لا يدع شيئاً منها في شيء من الجسد، وعبر عن جمع الكثرة بجمع القلة إشارة إلى أنها وإن تجاوزت الحصر فهي كنفس واحدة، ولعله لم يوحده لئلا يظن أن الوحدة على حقيقتها.

{حين موتها} أي منعها من التصرف في أجسادها في هذه الحياة الدنيا كائنة في مماتها محبوسة فيه مظروفة له، وعطف على الأنفس قوله: {والتي} أي ويتوفى الأنفس التي.

{لم تمت} لأنها لم تنقض آجالها حين نومها كائنة {في منامها} بمنعها من التصرف بالحس والإدراك ما دام النوم موجوداً مظروفة له لا شيء منها في الجسد على حال اليقظة، فالجامع بينهما عدم الإدراك والشعور والتصرف، ولو قيل: بموتها وبمنامها، لم يفد أن كلاًّ من الموت والوفاة آية مغايرة للأخرى.

ولما كان النوم منقضياً، دلنا بقرانه بالموت على أن الموت أيضاً منقض ولا بد؛ لأن الفاعل لكل منهما واحد، فسبب عن ذلك قوله: {فيمسك} أي فيتسبب عن الوفاتين أنه يمسك عنده.

{التي قضى} أي ختم وحكم وبت بتاً مقدراً مفروغاً منه، وقراءة البناء للمفعول موضحة لهذا المعنى بزيادة اليسر والسهولة.

{عليها الموت} مظروفة لمماتها، لا تقدر على تصريف جسدها ما دام الموت محيطاً بها كما أن النائمة كذلك ما دام النوم محيطاً بها.

{ويرسل الأخرى} أي التي أخر موتها، وجعلها مظروفة للمنام؛ لأنها لم ينقض أجلها الذي ضربه لها بأن يفنى بالمنام فيوقظها لتصريف أبدانها، ويجعل ذلك الإمساك للميتة، والإرسال للنائمة.

{إلى أجل مسمى} لبعث الميتة ولموت النائمة، لا يعلمه غيره، فإذا جاء ذلك الأجل أمات النائمة وبعث الميتة، وقد ظهر من التقدير الذي هدى إليه قطعاً السياق أن النفس التي تنام هي التي تموت وهي الروح، قال ابن الصلاح في فتاويه: وهو الأشبه بظاهر الكتاب والسنّة -انتهى. روى الطبراني في الأوسط- قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح -عن ابن عباس رضي الله الله عنهما قال: تلتقي أرواح الأحياء والأموات، فيتساءلون بينهم، فيمسك الله أرواح الموتى ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها.

وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليقل" باسمك ربي وضعت جنبي اللهم إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين "

"وظهر أيضاَ أن الآية من الاحتباك: ذكر الحين أولاً دليلاً على تقدير مثله في النوم ثانياً، والمنام ثانياً دليلاً على حذف الممات أولاً. ولما تم هذا على الأسلوب الرفيع، والنظم المنيع، نبه على عظمته وما فيه من الأسرار بقوله مؤكداً قرعاً بمن يرميه بالأساطير وغيرها من الأباطيل: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم من الوفاة والنوم على هذه الكيفية والعبارة عنه على هذا الوجه {لآيات}.

{لقوم} أي ذوي قوة في مزاولة الأمور.

ولما كان هذا الأمر لا يحتاج إلى غير تجريد النفس من الشواغل والتدبر قال: {يتفكرون} أي في عظمة هذا التدبير ليعلم به عظمة الله...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

إخباره أنه يتوفى الأنفس وإضافة الفعل إلى نفسه، لا ينافي أنه قد وكل بذلك ملك الموت وأعوانه، كما قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} لأنه تعالى يضيف الأشياء إلى نفسه، باعتبار أنه الخالق المدبر، ويضيفها إلى أسبابها، باعتبار أن من سننه تعالى وحكمته أن جعل لكل أمر من الأمور سببا...

وفي هذه الآية دليل على أن الروح والنفس جسم قائم بنفسه، مخالف جوهره جوهر البدن، وأنها مخلوقة مدبرة، يتصرف اللّه فيها في الوفاة والإمساك والإرسال.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

يصلح هذا أن يكون مثَلاً لحال ضلال الضالين وهُدى المهتدين نشأ عن قوله:

{فمن اهتدى فلنفسه إلى قوله: وما أنت عليهم بوكيل} [الزمر: 41]، والمعنى: أن استمرار الضالّ على ضلاله، قد يحصل بعدَه اهتداء، وقد يوافيه أجله وهو في ضلاله فضرب المثل لذلك بنوم النائم قد تعقبه إفاقة وقد يموت النائم في نومه، وهذا تهوين على نفس النبي برجاء إيمان كثير ممن هم يومئذٍ في ضلال وشرك كما تَحقّقَ ذلك. فتكون الجملة تعليلاً للجملة قبلَها ولها اتصال بقوله: {أفمن شرح الله صدره للإسلام} إلى قوله: {في ضلال مبين} [الزمر: 22].

ويجوز أن يكون انتقالاً إلى استدلال على تفرد الله تعالى بالتصرف في الأحوال فإنه ذكر دليل التصرف بخلق الذوات ابتداءً من قوله: خلق السموات والأرض بالحق إلى قوله: {في ظُلُمات ثَلاث} [الزمر: 5، 6]، ثم دليل التصرف بخلق أحوال ذواتٍ وإنشاءِ ذواتٍ من تلك الأحوال وذلك من قوله: ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض إلى قوله: {لأُولى الألباب} [الزمر: 21] وأعقَبَ كل دليل بما يظهر فيه أثره من الموعظة والعبرة والزجر عن مخالفة مقتضاه، فانتقل هنا إلى الاستدلال بحالة عجيبة من أحوال أنفُس المخلوقات وهي حالة الموت وحالة النوم. وقد أنبأ عن الاستدلال قوله: {إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}، فهذا دليل للناس من أنفسهم، قال تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات: 21] فتكون الجملة استئنافاً ابتدائياً للتدرج في الاستدلال، ولها اتصال بجملة خلق السموات والأرض بالحق} وجملة {ألم تر أن الله أنزل} المتقدمتين، وعلى كلا الوجهين أفادت الآية إبراز حقيقتين عظيمتين من نواميس الحياتين النفسية والجسدية، وتقديم اسم الجلالة على الخبر الفعلي لإِفادة تخصيصه بمضمون الخبر، أي الله يتوفّى لا غيره فهو قصر حقيقي لإِظهار فساد أَنْ أشركوا به آلهة لا تملك تصرفاً في أحوال الناس...

(الآياتُ لقوم يتفكرون) حاصلة على كل من إرادة التمثيل وإرادة استدلال على الانفراد بالتصرف، وتأكيد الخبر ب {إنَّ} لتنزيل معظم الناس منزلة المنكر لتلك الآيات؛ لعدم جريهم في أحوالهم على مقتضى ما تدل عليه.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

... وقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا} الأنفس جمع النفس، والنفس هي مجموع التقاء مادة الجسد بالروح، بحيث تنشأ منهما الأغيار الموجودة في الجوارح، فالمادة وحدها لا تُسمَّى نفساً، والروح وحدها لا تُسمَّى نفساً.

ومعنى {يَتَوَفَّى الأَنفُسَ} أي: يقبضها إليه سبحانه. وتوفِّي الأنفس له ظاهرتان: النوم والموت، ففي النوم يسلب الإنسان الوعي والتمييز، وتبقى فيه الروح لإدارة حركة الحياة فيه واستبقائها، فإذا استيقظ من نومه عاد إليه وَعْيه وعقله وتمييزه، أما في الموت فالله يتوفَّى الكل: الوعي، والتمييز، والأصل: وهو الروح والجسد، فالجسم في النوم لا يزاول شيئاً حتى المخ الذي يجب أنْ يظل عاملاً لا يعمل في النائم إلا كلّ سبع ثوان.

ولذلك لما تتوقف حركة الجسم تنخفض فيه درجة الحرارة ويحتاج إلى تدفئة، لذلك ننصح النائم بأنْ يتغطى لأن الحركة مفقودة، وينبغي أن نحفظ للجسم حرارته، البعض يظن أن الغطاء هو الذي يُدفئ النائم، لكن العكس هو الصحيح فحرارة الجسم هي التي تُدفئ الغطاء، وعمل الغطاء أنْ يحفظ لك حرارة الجسم حتى لا تتبدد، بدليل أنك تذهب إلى فراشك فتجده بارداً، وحين تستيقظ من نومك تجده دافئاً.

وقلنا: إن الإنسان يمرُّ بحالات: يقظة، نوم، موت، بعث. ولكل مرحلة من هذه المراحل قانونٌ خاص، فإياك أنْ تخلط قانوناً بقانون، فمثلاً الإنسان منا وهو نائم يفقد الوعي والتمييز، ومع ذلك يصبح فيذكر رُؤْيا رآها فيها أشكال وأشخاص وألوان يستطيع التمييز بينها وكأنها يقظة، فبأيِّ شيء أدرك هذه المدركات وميَّز بين الألوان وعينه مغمضة؟

قالوا: لأن للنائم أدواتٍ ووعياً غير التي له في اليقظة، فيرى لكن ليس بالعين.

إذن: في حالة الموت يكون له وعي آخر، البعض يتعجب وربما ينكر أنْ يضم القبرُ الواحد جسدين أحدهما يُنعِّم والآخر يُعذَّب، فلماذا لا تنكر مثل هذا في النوم مثلاً، فأنت تنام مع غيرك في فراش واحد يرى هو أنه في رحلة ممتعة فيها مَا لَذَّ وطابَ، وترى أنت أنك فيه تُضرب أو تمر بحادث مؤلم، لا هو يدري بك ولا أنت تدري به.

وقوله: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر: 42] أي: لا تعود إلى الجسم {وَيُرْسِلُ الأُخْرَىٰ..} [الزمر: 42] أي: في حالة النوم يعود إليك الوعي والتمييز {إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى..} [الزمر: 42] إلى الأجل المعلوم الذي قدَّره الله لك في اللوح المحفوظ.

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42] ساعة تجد الذي يخبرك بشيء ينبه فيك أدوات التمييز بين المقولات التي هي العقل والفكر والذكر والتدبر، فثِقْ بأنه ناصح لك لا يغشك ولا يُدلِّس عليك، لأن الذي يريد غِشَّك يأخذك على عجلة حتى لا تدري وجه الصواب ولا يعطيك الفرصة للبحث وتأمل الشيء...

فساعةَ يقول الحق سبحانه (أفلا تعقلون)، (أفلا تتذكرون)، (أفلا تتفكرون) فاعلم أنه يهيج عندك أدوات البحث والتأمل والاختيار بين البدائل، ولا يصنع ذلك معك إلا وهو واثق أنك لو استعملتَ هذه الأدوات فلن تصل إلا إلى مراده منك.

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلۡأَنفُسَ حِينَ مَوۡتِهَا وَٱلَّتِي لَمۡ تَمُتۡ فِي مَنَامِهَاۖ فَيُمۡسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيۡهَا ٱلۡمَوۡتَ وَيُرۡسِلُ ٱلۡأُخۡرَىٰٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمًّىۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (42)

فيه أربع مسائل :

الأولى- قوله تعالى : " الله يتوفى الأنفس حين موتها " أي يقبضها عند فناء آجالها " والتي لم تمت في منامها " اختلف فيه . فقيل : يقبضها عن التصرف مع بقاء أرواحها في أجسادها " فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى " وهي النائمة فيطلقها بالتصرف إلى أجل موتها . قال ابن عيسى{[13315]} . وقال الفراء : المعنى ويقبض التي لم تمت في منامها عند انقضاء أجلها . قال : وقد يكون توفيها نومها ، فيكون التقدير على هذا والتي لم تمت وفاتها نومها . وقال ابن عباس وغيره من المفسرين : إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله منها ، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى الأجساد أمسك الله أرواح الأموات عنده ، وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها . وقال سعيد بن جبير : إن الله يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا ، وأرواح الأحياء إذا ناموا ، فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف " فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى " أي يعيدها . قال علي رضي الله عنه : فما رأته نفس النائم وهي في السماء قبل إرسالها إلى جسدها فهي الرؤيا الصادقة ، وما رأته بعد إرسالها وقبل استقرارها في جسدها تلقيها الشياطين ، وتخيل إليها الأباطيل فهي الرؤيا الكاذبة . وقال ابن زيد : النوم وفاة والموت وفاة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كما تنامون فكذلك تموتون وكما توقظون فكذلك تبعثون ) . وقال عمر : النوم أخو الموت . وروي مرفوعا من حديث جابر بن عبد الله قيل : يا رسول الله أينام أهل الجنة ؟ قال : ( لا ، النوم أخو الموت والجنة لا موت فيها ) خرجه الدارقطني . وقال ابن عباس : ( في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس ، فالنفس التي بها العقل والتمييز ، والروح التي بها النفس والتحريك ، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه ) . وهذا قول ابن الأنباري والزجاج . قال القشيري أبو نصر : وفي هذا بعد إذ المفهوم من الآية أن النفس المقبوضة في الحال شيء واحد ؛ ولهذا قال : " فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى " فإذاً يقبض الله الروح في حالين في حالة النوم وحالة الموت ، فما قبضه في حال النوم فمعناه أنه يغمره بما يحبسه عن التصرف فكأنه شيء مقبوض ، وما قبضه في حال الموت فهو يمسكه ولا يرسله إلى يوم القيامة . وقوله : " ويرسل الأخرى " أي يزيل الحابس عنه فيعود كما كان . فتوفي الأنفس في حال النوم بإزالة الحس وخلق الغفلة والآفة في محل الإدراك . وتوفيها في حالة الموت بخلق الموت وإزالة الحس بالكلية . " فيمسك التي قضى عليها الموت " بألا يخلق فيها الإدراك كيف وقد خلق فيها الموت ؟ " ويرسل الأخرى " بأن يعيد إليها الإحساس .

الثانية- وقد اختلف الناس من هذه الآية في النفس والروح ، هل هما شيء واحد أو شيئان على ما ذكرنا . والأظهر أنهما شيء واحد ، وهو الذي تدل عليه الآثار الصحاح على ما نذكره في هذا الباب . من ذلك حديث أم سلمة قالت : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق{[13316]} بصره فأغمضه ، ثم قال : ( إن الروح إذا قبض تبعه البصر ) وحديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألم تروا الإنسان إذا مات شخص بصره ) قال : ( فذلك حين يتبع بصره نفسه ) خرجهما مسلم . وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( تحضر الملائكة فإذا كان الرجل صالحا قالوا : اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان ، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء . . . ) وذكر الحديث وإسناده صحيح خرجه ابن ماجة ، وقد ذكرناه في التذكرة . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : ( إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها . . . ) . وذكر الحديث . وقال بلال في حديث الوادي : أخذ بنفسي يا رسول الله الذي أخذ بنفسك . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مقابلا له في حديث زيد بن أسلم في حديث الوادي : ( يا أيها الناس إن الله قبض أرواحنا ولو شاء ردها إلينا في حين غير هذا ) .

الثالثة- والصحيح فيه أنه جسم لطيف مشابك للأجسام المحسوسة ، يجذب ويخرج وفي أكفانه يلف ويدرج ، وبه إلى السماء يعرج ، لا يموت ولا يفنى ، وهو مما له أول وليس له آخر ، وهو بعينين ويدين ، وأنه ذو ريح طيبة وخبيثة ، كما في حديث أبي هريرة . وهذه صفة الأجسام لا صفة الأعراض ، وقد ذكرنا الأخبار بهذا كله في كتاب التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة . وقال تعالى : " فلولا إذا بلغت الحلقوم " [ الواقعة : 83 ] يعني النفس إلى خروجها من الجسد ، وهذه صفة الجسم . والله أعلم .

الرابعة- خرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليأخذ داخلة إزاره فلينفض بها فراشه وليُسم الله فإنه لا يعلم ما خلفه بعد على فراشه فإذا أراد أن يضطجع فليضطجع على شقه الأيمن وليقل سبحانك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فاغفر لها ) . وقال البخاري وابن ماجة والترمذي : ( فارحمها ) بدل ( فاغفر لها ) ( وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين ) زاد الترمذي ( وإذا استيقظ فليقل الحمد لله الذي عافاني في جسدي ورد علي روحي وأذن لي بذكره ) . وخرج البخاري عن حذيفة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده ، ثم يقول : ( اللهم باسمك أموت وأحيا ) وإذا استيقظ قال : ( الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ) .

قوله تعالى : " فيمسك التي قضى عليها الموت " هذه قراءة العامة على أنه مسمى الفاعل " الموت " نصبا ، أي قضى الله عليها وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد ؛ لقوله في أول الآية : " الله يتوفى الأنفس " فهو يقضي عليها . وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي " قضي عليها الموت " على ما لم يسم فاعله . النحاس ، والمعنى واحد غير أن القراءة الأولى أبين وأشبه بنسق الكلام ؛ لأنهم قد أجمعوا على " ويُرسِلُ " ولم يقرؤوا " ويُرسَلُ " . وفي الآية تنبيه على عظيم قدرته وانفراده بالألوهية ، وأنه يفعل ما يشاء ، ويحيي ويميت ، لا يقدر على ذلك سواه . " إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون " يعني في قبض الله نفس الميت والنائم ، وإرساله نفس النائم وحبسه نفس الميت . وقال الأصمعي : سمعت معتمرا يقول : روح الإنسان مثل كبة{[13317]} الغزل ، فترسل الروح ، فيمضي ثم تمضي ثم تطوى فتجيء فتدخل ، فمعنى الآية أنه يرسل من الروح شيء في حال النوم ومعظمها في البدن متصل بما يخرج منها اتصالا خفيا ، فإذا استيقظ المرء جذب معظم روحه ما انبسط منها فعاد . وقيل غير هذا ، وفي التنزيل : " ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي " [ الإسراء : 85 ] أي لا يعلم حقيقته إلا الله . وقد تقدم في " سبحان " {[13318]} .


[13315]:في نسخة: قاله أبو عيسى.
[13316]:شق بصره: أي انفتح.
[13317]:كبة الغزل: ما جمع منه.
[13318]:راجع ج 10 ص 323 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلۡأَنفُسَ حِينَ مَوۡتِهَا وَٱلَّتِي لَمۡ تَمُتۡ فِي مَنَامِهَاۖ فَيُمۡسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيۡهَا ٱلۡمَوۡتَ وَيُرۡسِلُ ٱلۡأُخۡرَىٰٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمًّىۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (42)

ولما كان الوكيل في الشيء لا تصلح وكالته فيه إلا إن كان قادراً عليه بطريق من الطرق ، وكان حفظهم على الهدى وعن الضلال لا يكون عليه إلا لحاضر لا يغيب ولا يعتريه نوم ولا يطرقه موت ، لم تصح وكالة أحد من الخلق فيه ، وكان كأنه قيل : لأنه لو وكل إليك أمرهم لضاعوا عند نومك وموتك ، فدل عليه بما أدى معناه وزاد عليه من الفوائد ما يعرف بالتأمل من تشبيه الهداية بالحياة واليقظة والضلال بالموت والنوم ، فكما أنه لا يقدر على الإماتة والإنامة إلا الله فكذلك لا يقدر على الهداية والإضلال إلا الله ، فمن عرف هذه الدقيقة عرف سر الله في القدرة ، ومن عرف السر فيه هانت عليه المصائب ، فهي تسلية له صلى الله عليه وسلم ، لفت القول إلى التعبير بالاسم الأعظم لاقتضاء الحال له ، وأسند التوفي إليه سبحانه لأنه في بيان أنه لا يصلح للوكالة غيره أصلاً ، فقال : { الله } أي الذي له مجامع الكمال ، وليس لشائبة نقص إليه سبيل { يتوفى الأنفس } التي ماتت عند انقضاء آجالها ، أي يفعل في وفاتها فعل من يجتهد في ذلك بأن يقبضها وافية لا يدع شيئاً منها في شيء من الجسد ، وعبر عن جمع الكثرة بجمع القلة إشارة إلى أنها وإن تجاوزت الحصر فهي كنفس واحدة ، ولعله لم يوحده لئلا يظن أن الوحدة على حقيقتها { حين موتها } أي منعها من التصرف في أجسادها في هذه الحياة الدنيا كائنة في مماتها محبوسة فيه مظروفة له ، وعطف على الأنفس قوله : { والتي } أي ويتوفى الأنفس التي { لم تمت } لأنها لم تنقض آجالها حين نومها كائنة { في منامها } بمنعها من التصرف بالحس والإدراك ما دام النوم موجوداً مظروفة له لا شيء منها في الجسد على حال اليقظة ، فالجامع بينهما عدم الإدراك والشعور والتصرف ، ولو قيل : بموتها وبمنامها ، لم يفد أن كلاًّ من الموت والوفاة آية مغايرة للأخرى .

ولما كان النوم منقضياً ، دلنا بقرانه بالموت على أن الموت أيضاً منقض ، ولا بد لأن الفاعل لكل منهما واحد ، فسبب عن ذلك قوله : { فيمسك } أي فيتسبب عن الوفاتين أنه يمسك عنده { التي قضى } أي ختم وحكم وبت بتاً مقدراً مفروغاً منه ، وقراءة البناء للمفعول موضحة لهذا المعنى بزيادة اليسر والسهولة { عليها الموت } مظروفة لمماتها ، لا تقدر على تصريف جسدها ما دام الموت محيطاً بها كما أن النائمة كذلك ما دام النوم محيطاً بها { ويرسل الأخرى } أي التي أخر موتها ، وجعلها مظروفة للمنام لأنها لم ينقض أجلها الذي ضربه لها بأن يفنى بالمنام فيوقظها لتصريف أبدانها ، ويجعل ذلك الإمساك للميتة ، والإرسال للنائمة { إلى أجل مسمى } لبعث الميتة ولموت النائمة ، لا يعلمه غيره ، فإذا جاء ذلك الأجل أمات النائمة وبعث الميتة ، وقد ظهر من التقدير الذي هدى إليه قطعاً السياق أن النفس التي تنام هي التي تموت وهي الروح ، قال ابن الصلاح في فتاويه : وهو الأشبه بظاهر الكتاب والسنّة - انتهى .

روى الطبراني في الأوسط - قال الهيثمي : ورجاله رجال الصحيح - عن ابن عباس رضي الله الله عنهما قال : تلتقي أرواح الأحياء والأموات ، فيتساءلون بينهم ، فيمسك الله أرواح الموتى ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها . وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليقل " باسمك ربي وضعت جنبي اللهم إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين " " وظهر أيضاَ أن الآية من الاحتباك : ذكر الحين أولاً دليلاً على تقدير مثله في النوم ثانياً ، والمنام ثانياً دليلاً على حذف الممات أولاً .

ولما تم هذا على الأسلوب الرفيع ، والنظم المنيع ، نبه على عظمته وما فيه من الأسرار بقوله مؤكداً قرعاً بمن يرميه بالأساطير وغيرها من الأباطيل : { إن في ذلك } أي الأمر العظيم من الوفاة والنوم على هذه الكيفية والعبارة عنه على هذا الوجه { لآيات } أي على أنه لا يقدر على الإحياء والحفظ غيره ، وأنه قادر على البعث وغيره من كل ما يريده { لقوم } أي ذوي قوة في مزاولة الأمور . ولما كان هذا الأمر لا يحتاج إلى غير تجريد النفس من الشواغل والتدبر قال : { يتفكرون * } أي في عظمة هذا التدبير ليعلم به عظمة الله ، وذلك أن النفس جوهر روحاني له في التعلق بالبدن ثلاث حالات : إحداهما أن يقع ضوء النفس على البدن ظاهراً وباطناً ، وذلك هو الحياة مع اليقظة ، وثانيتها انقطاع ضوء النفس عن البدن ظاهراً لا باطناً ، وذلك بالنوم ، وثالثها انقطاع ذلك ظاهراً وباطناً وهو بالموت ، فالموت والنوم من جنس واحد إلا أن الموت انقطاع تام ، والنوم انقطاع ناقص ، فلا يقدر على إيجاد شيء واحد على نوعين ، ثم يجعلهما في شيء واحد على التعاقب ويفصل كلاًّ منهما من الآخر إلا هو سبحانه ، وكلما قدر على إنهاء الموتة الصغرى بحد جعله لها فهو قادر على إنهاء الكبرى بمثل ذلك .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلۡأَنفُسَ حِينَ مَوۡتِهَا وَٱلَّتِي لَمۡ تَمُتۡ فِي مَنَامِهَاۖ فَيُمۡسِكُ ٱلَّتِي قَضَىٰ عَلَيۡهَا ٱلۡمَوۡتَ وَيُرۡسِلُ ٱلۡأُخۡرَىٰٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمًّىۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (42)

قوله : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } المراد بالأنفس الأرواح وقيل : النفس غير الروح ، فالروح لها تدبير عالم الحياة ، وأما النفس فلها تدبير عالم الإحساس . وهو قول ابن عباس وغيره . والأظهر أنهما اسمان مترادفان فهما شيء واحد . وإن فراق ذلك من الأجساد يعني موتها وهو تأويل قوله : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } أي يقبضها عن الأبدان بأن يقطع تعلّقها عنها وتلك هي الوفاة الكبرى .

قوله : { وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } أي يتوفى الأنفس حين تنام – تشبيها للنائمين بالموتى – وتلك هي الموتة الصغرى التي يُسلبْ فيها النائم القدرة على الإدراك والإحساس والوعي ، مع أنه يتنفس ، وقلبه خافق ينبض . ويصطلح الباحثون في الدراسات النفسية الحديثة على عبارة اللاشعور ، ويسمون ذلك بالعقل الباطن . وذلك شطر أساسي وكبير يجد الإنسان فيه متنفسه أثناء النوم . وهو الشطر الواسع من النفس ، الذي تحتشد في خضمِّه كل الرغبات المكبوتة للإنسان ، والتي عجز الإنسان عن تحقيقها وبلوغها في حال اليقظة أو الشعور فانحشرت جميعها في عالم اللاشعور من نفس الإنسان . وذلك هو الكبت . فما يجد المرء المكبوت بذلك من متسع للتنفيس عن هذه الرغبات المضغوطة المكبوتة إلا في الأحلام عند المنام . ويبقى مثل هذا التحليل للنفس الإنسانية مجرد تصوّر يتخيله الباحثون في علم النفس . وهو تصوّر يحتمل الخطأ والصواب ، في حق شطر من الأحلام ، لا كلها . فشطر من الأحلام – قلّ أو كثر – ربما كان نتيجة لإحساسات مختلفة من الأفراح والأحزان أو لرغائب محبوسة لم يتيسر لها التحقق والنفاذ ، أما أن تُفسَّر الأحلام على أنها كلها تعبير عن رغبات مكبوتة فذلك إسراف في الهوى والخطأ ومجانبة للحق والصواب ، وركون للخيال والتخريص الواهم ؛ بل الصحيح أن شطرا عظيما من الأحلام لهو تجليات روحية صادقة وارتباط وثيق حقيقي بالملأ الأعلى في السماء . وهذا الشطر من الأحلام سماه النبي صلى الله عليه وسلم بالمبشرات وهي جزء من النبوة الكريمة .

ومن أصدق الاحتجاج لهذه الحقيقة رؤى النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت ما تلبث أن تتحقق وتستبين في الواقع . وكذلك المؤمنون من بعده يرى كثير منهم الرؤى ثم يجدون تفسيرها في حياتهم وقد ظهر تأويلها واضحا لا شك فيه .

قوله : { فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ } أي يقبضها فلا يردها وذلك هو الموت الحقيقي { وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى } أي يطلق النفس الأخرى وهي النائمة { إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } أي على الوقت المؤجل حتى تموت .

قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } الإشارة ، إلى توفِّي الأنفس ، وفاتين : وهما وفاة الموت ووفاة النوم ؛ إذ يمسك الله الأولى بقبضها ، وإرسال الأخرى النائمة ؛ فإن في ذلك آيات ظاهرة على قدرة الصانع العظيم . وهي آيات مكشوفة يتدبرها أولو العقول السليمة ، الذين يُجيلون فيها أفكارهم فيعتبرون كل الاعتبار{[3982]}


[3982]:روح المعاني ج 24 ص 6-8 وتفسير النسفي ج 4 ص 59 والبحر المحيط ج 7 ص 414 والكشاف ج 3 ص 400.