{ 31 - 32 } { أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ * وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ } .
يقول تعالى : ألم ير هؤلاء ويعتبروا بمن قبلهم من القرون المكذبة ، التي أهلكها الله تعالى وأوقع بها عقابها ، وأن جميعهم قد باد وهلك ، فلم يرجع إلى الدنيا ، ولن يرجع إليها ، وسيعيد اللّه الجميع خلقا جديدا .
قوله تعالى : " ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون " قال سيبويه : " أن " بدل من " كم " ، ومعنى كم ها هنا الخبر ؛ فلذلك جاز أن يبدل منها ما ليس باستفهام . والمعنى : ألم يروا أن القرون الذين أهلكناهم أنهم إليهم لا يرجعون . وقال الفراء : " كم " في موضع نصب من وجهين : أحدهما ب " يروا " واستشهد على هذا بأنه في قراءة ابن مسعود " ألم يروا من أهلكنا " . والوجه الآخر أن يكون " كم " في موضع نصب ب " أهلكنا " . قال النحاس : القول الأول محال ؛ لأن " كم " لا يعمل فيها ما قبلها ؛ لأنها استفهام ، ومحال أن يدخل الاستفهام في خبر ما قبله . وكذا حكمها إذا كانت خبرا ، وإن كان سيبويه قد أومأ إلى بعض هذا فجعل " أنهم " بدلا من كم . وقد رد ذلك محمد بن يزيد أشد رد ، وقال : " كم " في موضع نصب ب " أهلكنا " و " أنهم " قي موضع نصب ، والمعنى عنده بأنهم أي : " ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون " بالاستئصال . قال : والدليل على هذا أنها في قراءة عبد الله : " من أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون " . وقرأ الحسن : " إنهم إليهم لا يرجعون " بكسر الهمزة على الاستئناف . وهذه الآية رد على من زعم أن من الخلق من يرجع قبل القيامة بعد الموت .
ولما أتم سبحانه الخبر عن أول أمر الممثل بهم وأول أمر المؤمن بهم وآخره ، وأذن هذا التحسر بأن هلاك المكذبين أمر لا بد منه ، دل عليه معجباً عن عدم نظرهم لأنفسهم ومهدداً للسامعين منهم ، ومحذراً من آخر أمر الممثل بهم على وجه اندرج فيه جميع الأمم الماضية والطوائف الخالية بقوله : { ألم يروا } أي :يعلم هؤلاء الذين تدعوهم علماً هو كالرؤية بما صح عندهم من الأخبار وما شاهدوه من الآثار : { كم أهلكنا } على ما لنا من العظمة ، ودل قوله : { قبلهم } - بكونه ظرفاً لم يذكر فيه الجار - على أن المراد :جميع الزمان الذي تقدمهم من آدم إلى زمانهم ، وإدخال الجار على المهلكين يدل على أن المراد بعضهم ، فرجع حاصل ذلك إلى أن المراد : انظروا جميع ما مضى من الزمان هل عذب فيه قوم عذاب الاستئصال إلا بسبب عصيان الرسل فقال : { من القرون } أي :الكثيرة الشديدة الضخمة ، والقرن - قال البغوي : أهل كل عصر سموا بذلك لاقترانهم في الوجود { أنهم } أي : لأن القرون .
ولما كان المراد من رسول ليس واحداً بعينه ، وكانت صيغة فعول كفعيل يستوي فيها المذكر والمؤنث والواحد والجمع ، أعاد الضمير للجميع فقال : { إليهم } أي : إلى الرسل خاصة من حيث كونهم رسلاً { لا يرجعون * } أي : عن مذاهبهم الخبيثة ، ويخصون الرسل بالاتباع فلا يتبعون غيرهم أصلاً في شيء من الأشياء الدينية او الدنيوية ، فاطردت سنتنا ولن تجد لسنتنا تبديلاً في أنه كلما كذب قوم رسولهم أهلكناهم ونجينا رسولهم ومن تبعه ، أفلا يخاف هؤلاء أن نجريهم على تلك السنة القديمة القويمة ف " إن " تعليلية على إرادة حذف لام العلة كما هو معروف في غير موضع ، وضمير { أنهم } للمرسل إليهم ، وضمير { إليهم } للرسل ، لا يشك في هذا من له ذوق سليم وطبع مستقيم ، والتعبير بالمضارع للدلالة على إمهالهم والتأني بهم والحلم عنهم مع تماديهم في العناد بتجديد عدم الرجوع ، و { يرجعون } هنا نحو قوله تعالى : { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون }[ السجدة : 21 ] أي :عن طرقهم الفاسدة - وهذا معنى الآية بغير شك ، وليس بشيء قول من قال : المعنى أن المهلكين لا يرجعون إلى الدنيا ليفيد الرد على من يقول بالرجعة ؛لأن العرب ليست ممن يعتقد ذلك ، ولو سلم لم يحسن ، لأن السياق ليس له ، لم يتقدم عنهم غير الاستهزاء ، فأنكر عليهم استهزاءهم مع علمهم بأن الله تعالى أجرى سنته أن من استهزأ بالرسل وخالف قولهم فلم يرجع إليه أهلكه ، أطرد ذلك من سنته ولم يتخلف في أمة من الأمم كما وقع لقوم نوح وهود ومن بعدهم ، لم يتخلف في واحدة منهم ، وكلهم تعرف العرب أخبارهم ، وينظرون آثارهم ، وكذا يعرفون قصة موسى عليه السلام مع فرعون ، فالسياق للتهديد ، فصار المعنى : ألم ير هؤلاء كثرة من أهلكنا ممن قبلهم لمخالفتهم للرسل ، أفلا يخشون مثل ذلك في مخالفتهم لرسولهم ؟ وذلك موافق لقراءة الكسر ، التي نقلها البرهان السفاقسي عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره عن الحسن ، وقالوا : إنها استئنافية ، فهي على تقدير سؤال من كأنه قال : لم أهلكهم ؟ وهذا كما إذا شاع أن الوادي الفلاني ما سلكه أحد إلا أصيب ، يكون ذلك مانعاً عن سلوكه ، وإن أراد ذلك أحد صح أن يقال له : ألم تر أنه ما سلكه أحد إلا هلك ، فيكون ذلك زاجراً له ورادّاً عن التمادي فيه ، لكون العلة في الهلاك سلوكه فقط ، وذلك أكف له من أن يقال له : ألم تر أن الناس يموتون وكثرة من مات منهم ولم يرجع أحد منهم ، غير معلل ذلك بشيء من سلوك الوادي ولا غيره ، فإن هذا أمر معلوم له ، غير مجدد فائدة ، وزيادة عدم الرجوع إلى الدنيا لا دخل لها في العلية أيضاً ؛لأن ذلك معلوم عند المخاطبين ، بل هم قائلون بأعظم منه من أنه لا حياة بعد الموت لا إلى الدنيا ولا إلى غيرها ، وعلى تقدير التسليم فربما كان ذكر الرجوع للأموات أولى بأن يكون تهديداً ، فإن كل إنسان منهم يرجع حينئذ إلى ما في يد غيره مما كان مات عليه ويصير المتبوع بذلك تابعاً أو يقع الحرب وتحصل الفتن ، فأفاد ذلك أنه لا يصلح التهديد بعدم الرجوع - والله الموفق للصواب .
قوله : { أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ } { كمْ } ههنا خبرية ، فهي مفعول به للفعل { أَهْلَكْنَا } . والتقدير : كثيرا من القرون أهلكنا . وقوله : { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ } بدل من قوله : { كَمْ أَهْلَكْنَا } {[3899]}
والمعنى : ألم ير هؤلاء المشركون كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم . فقد زعم كثير من جهلة العرب المشركين أنهم راجعون إلى الدنيا . فردَّ الله مقالتهم وافتراءهم بهذه الآية ليبين لهم أنهم ليس لهم أيما كرَّةٍ أو رجعة إلى هذه الدنيا ، وإنما هم راجعون إلى الله يوم القيامة حيث الحساب والجزاء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.