وأما من أنصف ، وكان مقصوده الحق المبين ، فإنه لا يكذب بيوم الدين ، لأن الله قد أقام عليه من الأدلة القاطعة ، والبراهين الساطعة ، ما يجعله حق اليقين ، وصار لقلوبهم مثل الشمس للأبصار{[1382]} ، بخلاف من ران على قلبه كسبه ، وغطته معاصيه ، فإنه محجوب عن الحق .
قوله تعالى : " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " " كلا " : ردع وزجر ، أي ليس هو أساطير الأولين . وقال الحسن : معناها حقا " ران على قلوبهم " . وقيل : في الترمذي : عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء ، فإذا هو نزع واستغفر الله وتاب ، صقل قلبه ، فإن عاد زيد فيها ، حتى تعلو على قلبه ) ، وهو( الران ) الذي ذكر الله في كتابه : " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " . قال : هذا حديث حسن صحيح . وكذا قال المفسرون : هو الذنب على الذنب حتى يسود القلب . قال مجاهد : هو الرجل يذنب الذنب ، فيحيط الذنب بقلبه ، ثم يذنب الذنب فيحيط الذنب بقلبه ، حتى تغشي الذنوب قلبه . قال مجاهد : هي مثل الآية التي في سورة البقرة : " بلى من كسب سيئة " [ البقرة : 81 ] الآية . ونحوه عن الفراء . قال : يقول كثرت المعاصي منهم والذنوب ، فأحاطت بقلوبهم ، فذلك الرين عليها . وروي عن مجاهد أيضا قال : القلب مثل الكهف ورفع كفه ، فإذا أذنب العبد الذنب انقبض ، وضم إصبعه ، فإذا أذب الذنب انقبض ، وضم أخرى ، حتى ضم أصابعه كلها ، حتى يطبع على قلبه . قال : وكانوا يرون أن ذلك هو الرين ، ثم قرأ : " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " . ومثله عن حذيفة رضي الله عنه سواء . وقال بكر بن عبد الله : إن العبد إذا أذنب صار في قلبه كوخزة الإبرة ، ثم صار إذا أذنب ثانيا صار كذلك ، ثم إذا كثرت الذنوب صار القلب كالمنخل ، أو كالغربال ، حتى لا يعي خيرا ، ولا يثبت فيه صلاح . وقد بينا في " البقرة " {[15851]} القول في هذا المعنى بالأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا معنى لإعادتها . وقد روى عبد الغني بن سعيد عن موسى بن عبد الرحمن عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس ، وعن موسى عن مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس شيئا الله أعلم بصحته . قال : هو الران الذي يكون على الفخذين والساق والقدم ، وهو الذي يلبس في الحرب . قال : وقال آخرون : الران : الخاطر الذي يخطر بقلب الرجل . وهذا مما لا يضمن عهدة صحته . فالله أعلم . فأما عامة أهل التفسير فعلى ما قد مضى ذكره قبل هذا . وكذلك أهل اللغة عليه ، يقال : ران على قلبه ذنبه يرين رينا وريونا أي غلب . قال أبو عبيدة في قوله : " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " أي غلب ، وقال أبو عبيد : كل ما غلبك [ وعلاك ]{[15852]} فقد ران بك ، ورانك ، وران عليك ، وقال الشاعر :
وكم رَانَ من ذنب على قلب فاجر *** فتاب من الذنب الذي ران وانْجَلَى
ورانت الخمر على عقله : أي غلبته ، وران عليه النعاس : إذا غطاه ، ومنه قول عمر في الأسيفع - أسيفع جهينة - : فأصبح قد رين به{[15853]} . أي غلبته الديون ، وكان يدَّان ، ومنه قول أبي زبيد يصف رجلا شرب حتى غلبه الشراب سكرا ، فقال :
ثم لما رآه رَانَتْ بِهِ الخم*** رُ وأنْ لا تَرَيْنَهُ باتقاءِ{[15854]}
فقوله : رانت به الخمر ، أي غلبت على عقله وقلبه . وقال الأموي : قد أران القوم فهم مرينون : إذا هلكت مواشيهم وهزلت . وهذا من الأمر الذي أتاهم مما يغلبهم ، فلا يستطيعون احتماله . قال أبو زيد يقال : قد رين بالرجل رينا : إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه ، ولا قبل له وقال أبو معاذ النحوي : الرين{[15855]} : أن يسود القلب من الذنوب ، والطبع أن يطبع على القلب ، وهذا أشد من الرين ، والإقفال أشد من الطبع . الزجاج : الرين : هو كالصدأ يغشي القلب كالغيم الرقيق ، ومثله الغين ، يقال : غين على قلبه : غطي . والغين : شجر ملتف ، الواحدة غيناء ، أي خضراء ، كثيرة الورق ، ملتفة الأغصان . وقد تقدم قول الفراء أنه إحاطة الذنب بالقلوب . وذكر الثعلبي عن ابن عباس : " ران على قلوبهم " : أي غطى عليها . وهذا هو الصحيح عنه إن شاء الله . وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وأبو بكر والمفضل " ران " بالإمالة ؛ لأن فاء الفعل الراء ، وعينه الألف منقلبة من ياء ، فحسنت الإمالة لذلك . ومن فتح فعلى الأصل ؛ لأن باب فاء الفعل في ( فعل ) الفتح ، مثل كال وباع ونحوه . واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ووقف حفص " بل " ثم يبتدئ " ران " وقفا يبين اللام ، لا للسكت .
ولما كان هذا قد صار كالأنعام في عدم النظر بل هو أضل سبيلاً لأنه قادر على النظر دونها{[72190]} ، قال رادعاً له ومكذباً ومبيناً لما أدى به إلى هذا القول وهو لا يعتقده : { كلا } أي ليرتدع ارتداعاً عظيماً ولينزجر انزجاراً شديداً ، فليس الأمر كما قال في المتلو ولا هو-{[72191]} معتقد{[72192]} له اعتقاداً جازماً لأنه لم يقله عن بصيرة { بل ران } أي غلب وأحاط وغطى تغطية الغيم للسماء والصدأ للمرآة ، وجمع اعتباراً بمعنى " كل " لئلا يتعنت متعنت ، فقال معبراً بجمع الكثرة إشارة إلى كثرتهم : { على قلوبهم } أي كل من قال هذا القول { ما كانوا } أي{[72193]} بجبلاتهم الفاسدة { يكسبون * } أي يجددون كسبه مستمرين عليه من الأعمال الردية ، فإن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكات إن خيراً فخيراً{[72194]} وإن شراً فشراً{[72195]} ، فيتراكم الذنب على القلب فيسود ، فلذلك كانوا يقولون مثل هذا الاعتقاد ، بل هو شيء يسدون به المجلس ويقيمون لأنفسهم عند العامة المعاذير ويفترون به عزائم التالين بما{[72196]} يحرقون من{[72197]} قلوبهم - أحرق الله قلوبهم وبيوتهم بالنار - فإنهم لا ينقطعون في عصر من الأعصار ولا يخشون من عار ولا شنار ، روى أحمد{[72198]} والترمذي{[72199]} وابن ماجه{[72200]} عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا أذنب العبد نكتت{[72201]} في قلبه نكتة سوداء فإن تاب صقل منها ، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه ، فذلك الران الذي قال الله سبحانه وتعالى " وقال الغزالي في كتاب التوبة{[72202]} من الإحياء : قد سبق أن الإنسان {[72203]}لا يخلو في مبدأ خلقته{[72204]} عن اتباع الشهوات ، وكل شهوة اتبعها الإنسان ارتفع منها ظلمة إلى قلبه كما يرتفع عن نفس الإنسان ظلمة إلى وجه المرآه الصقيلة ، فإن تراكمت ظلمة الشهوات صار ريناً كما يصير بخار النفس في وجه المرآة عند تراكمه خبثاً ، فإذا تراكم الرين صار طبعاً كالخبث على وجه المرآة-{[72205]} إذا تراكم وطال زمانه غاص في جرم الحديد وأفسده وصار لا يقبل التصقيل بعده ، وصار كالمطبوع من الخبث{[72206]} ولا يكفي في تدارك اتباع الشهوات تركها في المستقبل بل لا بد من محو تلك الآثار التي انطبعت في القلب كما لا يكفي في ظهور الصورة في المرآة قطع الأنفاس والبخارات المسودة لوجهها في المستقبل ما لم يشتغل بمحو ما انطبع فيها من الآثار ، وكما يرتفع إلى القلب ظلمة من المعاصي والشهوات فيرتفع إليه نور من الطاعات وترك الشهوات فتنمحي ظلمة المعصية بنور الطاعة ، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم :
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.