لقد كان الرسل من البشر ليعيشوا حياة البشر ؛ فتكون حياتهم الواقعية مصداق شريعتهم . وسلوكهم العملي نموذجا حيا لما يدعون إليه الناس . فالكلمة الحية الواقعية هي التي تؤثر وتهدي ، لأن الناس يرونها ممثلة في شخص مترجمة إلى حياة .
ولو كان الرسل من غير البشر لا يأكلون الطعام ، ولا يمشون في الأسواق ، ولا يعاشرون النساء .
ولا تعتلج في صدورهم عواطف البشر وانفعالاتهم لما كانت هناك وشيجة بينهم وبين الناس . فلا هم يحسون دوافع البشر التي تحركهم ، ولا البشر يتأسون بهم ويقتدون .
وأيما داعية لا يحس مشاعر الذين يدعوهم ولا يحسون مشاعره ، فإنه يقف على هامش حياتهم ، لا يتجاوب معهم ولا يتجاوبون معه . ومهما سمعوا من قوله فلن يحركهم للعمل بما يقول . لما بينه وبينهم من قطيعة في الحس والشعور .
وأيما داعية لا يصدق فعله قوله . فإن كلماته تقف على أبواب الآذان لا تتعداها إلى القلوب . مهما تكن كلماته بارعة وعباراته بليغة . فالكلمة البسيطة التي يصاحبها الانفعال ، ويؤيدها العمل . هي الكلمة المثمرة التي تحرك الآخرين إلى العمل .
والذين كانوا يقترحون أن يكون الرسول من الملائكة ، كالذين يقترحون اليوم أن يكون الرسول منزها عن انفعالات البشر . . كلهم يتعنتون ويغفلون عن هذه الحقيقة . وهي أن الملائكة لا يحيون حياة البشر بحكم تكوينهم ولا يمكن أن يحيوها . . لا يمكن أن يحسوا بدوافع الجسد ومقتضياته ، ولا بمشاعر هذا المخلوق الآدمي ذي التكوين الخاص . وأن الرسول يجب أن يحس بهذه الدوافع والمشاعر ، وأن يزاولها في حياته الواقعية ليرسم بحياته دستور الحياة العملي لمتبعيه من الناس .
وهنالك اعتبار آخر ، وهو أن شعور الناس بأن الرسول ملك لا يثير في نفوسهم الرغبة في تقليده في جزئيات حياته ؛ لأنه من جنس غير جنسهم ، وطبيعة غير طبيعتهم ، فلا مطمع لهم في تقليد منهجه في حياته اليومية . وحياة الرسل أسوة دافعة لغيرهم من الناس .
وهذا وذلك فوق ما في ذلك الاقتراح من غفلة عن تكريم الله للجنس البشري كله ، باختيار الرسل منه ، ليتصلوا بالملأ الأعلى ويتلقوا عنه .
لذلك كله اقتضت سنة الله الجارية اختيار الرسل من البشر ؛ وأجرت عليهم كل ما يجري على البشر من ولادة وموت . ومن عواطف وانفعالات . ومن آلام وآمال . ومن أكل للطعام ومعاشرة للنساء . . وجعلت أكبر الرسل وأكملهم وخاتمهم وصاحب الرسالة الباقية فيهم . . أكمل نموذج لحياة الإنسان على الأرض ، بكل ما فيها من دوافع وتجارب وعمل وحياة .
الجسد : الجسم الذي لا حياة فيه ، وهو يرادف الجثة . هذا قول المحققين من أيمة اللغة مثل أبي إسحاق الزجاج في تفسير قوله تعالى : { فأخرج لهم عجلاً جسدا } [ طه : 88 ] . وقد تقدم هناك ، ومنه قوله تعالى : { ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً } [ ص : 34 ] . قيل هو شِق غلام لا روح فيه ولدته إحدى نسائه ، أي ما جعلناهم أجراماً غير منبثة فيها الأرواح بحيث تنتفي عنهم صفات البشَر التي خاصتها أكل الطعام ، وهذا رد لما يقولونه { ما لهذا الرسول يأكل الطعام } [ الفرقان : 7 ] مع قولهم هنا { هل هذا إلا بشر مثلكم } [ الأنبياء : 3 ] .
وذكر الجسد يفيد التهكم بالمشركين لأنهم لما قالوا { ما لهذا الرسول يأكل الطعام } [ الفرقان : 7 ] ، وسألوا أن يأتي بما أرسل به الأولون كان مقتضى أقوالهم أن الرسل الأولين كانوا في صور الآدميين لكنهم لا يأكلون الطعام وأكل الطعام من لوازم الحياة ، فلزمهم لما قالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام أن يكونوا قائلين بأن شأن الرسل أن يكونوا أجساداً بلا أرواح ، وهذا من السخافة بمكانة .
وأما قوله : { وما كانوا خالدين } فهو زيادة استدلال لتحقيق بشريتهم استدلالاً بما هو واقع من عدم كفاءة أولئك الرسل كما هو معلوم بالمشاهدة ، لقطع معاذير الضالين ، فإن زعموا أن قد كان الرسل الأولون مخالفين للبشر فماذا يصنعون في لحاق الفناء إياهم . فهذا وجه زيادة { وما كانوا خالدين } .
وأُتي في نفي الخلود عنهم بصيغة { ما كانوا } تحقيقاً لتمكن عدم الخلود منهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما جعلناهم جسدا} يعني: الأنبياء، عليهم السلام، والجسد الذي ليس فيه روح... {لا يأكلون الطعام} ولا يشربون ولكن جعلناهم جسدا فيها أرواح، يأكلون الطعام، ويذوقون الموت، وذلك قوله سبحانه: {وما كانوا خالدين} في الدنيا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
لم نجعلهم ملائكة لا يأكلون الطعام، ولكن جعلناهم أجسادا مثلك يأكلون الطعام. وقال وما جَعَلْنَاهُمْ جَسَدا فوحّد «الجسد» وجعله موحدا، وهو من صفة الجماعة، وإنما جاز ذلك لأن الجسد بمعنى المصدر، كما يقال في الكلام: وما جعلناهم خَلْقا لا يأكلون.
وقوله:"ومَا كانُوا خالِدِينَ" يقول: ولا كانوا أربابا لا يموتون ولا يفنون، ولكنهم كانوا بشرا أجسادا فماتوا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فعلى ذلك هذا الرسول المبعوث إليكم هو كسائر الرسل الذين كانوا من قبل؛ هو ممن يأكل، ويشرب، وينكح، وهو رسول، وإنه بشر كسائر البشر، وهو رسول الله.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: نعم قد ردّ إنكارهم أن يكون الرسول بشراً يأكل ويشرب بما ذكرت، فماذا ردّ من قولهم بقوله: {وَمَا كَانُواْ خالدين}؟ قلت: يحتمل أن يقولوا إنه بشر مثلنا يعيش كما نعيش ويموت كما نموت. أو يقولوا هلا كان ملكاً لا يطعم ويخلد، إما معتقدين أن الملائكة لا يموتون. أو مسمين حياتهم المتطاولة وبقاءهم الممتدّ خلوداً.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{جسداً} أي ذوي جسد لحم ودم متصفين بأنهم {لا يأكلون الطعام} بل جعلناهم أجساداً يأكلون ويشربون، وليس ذلك بمانع من إرسالهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولو كان الرسل من غير البشر لا يأكلون الطعام، ولا يمشون في الأسواق، ولا يعاشرون النساء، ولا تعتلج في صدورهم عواطف البشر وانفعالاتهم لما كانت هناك وشيجة بينهم وبين الناس؛ فلا هم يحسون دوافع البشر التي تحركهم، ولا البشر يتأسون بهم ويقتدون. وأيما داعية لا يحس مشاعر الذين يدعوهم ولا يحسون مشاعره، فإنه يقف على هامش حياتهم، لا يتجاوب معهم ولا يتجاوبون معه. ومهما سمعوا من قوله فلن يحركهم للعمل بما يقول لما بينه وبينهم من قطيعة في الحس والشعور. وأيما داعية لا يصدق فعله قوله، فإن كلماته تقف على أبواب الآذان لا تتعداها إلى القلوب، مهما تكن كلماته بارعة وعباراته بليغة. فالكلمة البسيطة التي يصاحبها الانفعال، ويؤيدها العمل، هي الكلمة المثمرة التي تحرك الآخرين إلى العمل.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الجسد: الجسم الذي لا حياة فيه، وهو يرادف الجثة. هذا قول المحققين من أيمة اللغة مثل أبي إسحاق الزجاج في تفسير قوله تعالى: {فأخرج لهم عجلاً جسدا} [طه: 88]. وقد تقدم هناك... أي ما جعلناهم أجراماً غير منبثة فيها الأرواح بحيث تنتفي عنهم صفات البشَر التي خاصتها أكل الطعام، وهذا رد لما يقولونه {ما لهذا الرسول يأكل الطعام} [الفرقان: 7] مع قولهم هنا {هل هذا إلا بشر مثلكم} [الأنبياء: 3].
وذكر الجسد يفيد التهكم بالمشركين لأنهم لما قالوا {ما لهذا الرسول يأكل الطعام} [الفرقان: 7]، وسألوا أن يأتي بما أرسل به الأولون كان مقتضى أقوالهم أن الرسل الأولين كانوا في صور الآدميين لكنهم لا يأكلون الطعام وأكل الطعام من لوازم الحياة، فلزمهم لما قالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام أن يكونوا قائلين بأن شأن الرسل أن يكونوا أجساداً بلا أرواح، وهذا من السخافة بمكانة.
وأما قوله: {وما كانوا خالدين} فهو زيادة استدلال لتحقيق بشريتهم استدلالاً بما هو واقع من عدم كفاءة أولئك الرسل كما هو معلوم بالمشاهدة، لقطع معاذير الضالين، فإن زعموا أن قد كان الرسل الأولون مخالفين للبشر فماذا يصنعون في لحاق الفناء إياهم. فهذا وجه زيادة {وما كانوا خالدين}.
وأُتي في نفي الخلود عنهم بصيغة {ما كانوا} تحقيقاً لتمكن عدم الخلود منهم.
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.