36 - 37 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ .
يقول تعالى مبينا لعداوة المشركين وكيدهم ومكرهم ، ومبارزتهم للّه ولرسوله ، وسعيهم في إطفاء نوره وإخماد كلمته ، وأن وبال مكرهم سيعود عليهم ، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ، فقال : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي : ليبطلوا الحق وينصروا الباطل ، ويبطل توحيد الرحمن ، ويقوم دين عبادة الأوثان .
فَسَيُنْفِقُونَهَا أي : فسيصدرون هذه النفقة ، وتخف عليهم لتمسكهم بالباطل ، وشدة بغضهم للحق ، ولكنها ستكون عليهم حسرة ، أي : ندامة وخزيا وذلا ويغلبون فتذهب أموالهم وما أملوا ، ويعذبون في الآخرة أشد العذاب . ولهذا قال : وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ أي : يجمعون إليها ، ليذوقوا عذابها ، وذلك لأنها دار الخبث والخبثاء ،
والكفار ينفقون أموالهم ليتعاونوا على الصد عن سبيل الله . . هكذا فعلوا يوم بدر ، على نحو ما ذكرنا في سياق الحديث عن الموقعة من كتب السيرة . . وهكذا ظلوا بعد بدر يستعدون للوقعة التالية . والله ينذرهم بالخيبة فيما يبغون وبالحسرة على ما ينفقون ، ويعدهم الهزيمة في الدنيا وعذاب جهنم في الآخرة :
( إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله . فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ؛ ثم يغلبون ؛ والذين كفروا إلى جهنم يحشرون . ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض ، فيركمه جميعاً ، فيجعله في جهنم ، أولئك هم الخاسرون ) . .
روى محمد بن إسحاق عن الزهري وغيره قالوا : لما أصيبت قريش يوم بدر ، ورجع فلهم - أي جيشهم المهزوم - إلى مكة ؛ ورجع أبو سفيان بِعيره ، مشى عبدالله بن ربيعة ، وعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أمية ، في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر ، فكلموا أبا سفيان بن حرب ، ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة ، فقالوا : يا معشر قريش ، إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم ! فأعينونا بهذا المال على حربه ، لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا . ففعلوا . فقال : ففيهم - كما ذكر ابن عباس - أنزل الله عز وجل : ( إن الذين كفروا ينفقون أموالهم . . . ) .
وليس هذا الذي حدث قبل بدر وبعدها إلا نموذجاً من الأسلوب التقليدي لأعداء هذا الدين . . إنهم ينفقون أموالهم ، ويبذلون جهودهم ، ويستنفدون كيدهم ، في الصد عن سبيل الله ، وفي إقامة العقبات في وجه هذا الدين . وفي حرب العصبة المسلمة في كل أرض وفي كل حين . .
إن المعركة لن تكف . وأعداء هذا الدين لن يدعوه في راحة . ولن يتركوا أولياء هذا الدين في أمن . وسبيل هذا الدين هو أن يتحرك ليهاجم الجاهلية ، وسبيل أوليائه أن يتحركوا لتحطيم قدرة الجاهلية على العدوان ؛ ثم لإعلاء راية الله حتى لا يجرؤ عليها الطاغوت .
والله - سبحانه - ينذر الكفار الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله بأنها ستعود عليهم بالحسرة . . إنهم سينفقونها لتضيع في النهاية ، وليغلبوا هم وينتصر الحق في هذه الدنيا . وسيحشرون في الآخرة إلى جهنم ، فتتم الحسرة الكبرى . . ذلك . .
{ إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون }
لما ذُكر صدهم المسلمين عن المسجد الحرام الموجب لتعذيبهم ، عُقب بذكر محاولتهم استيصال المسلمين وصدهم عن الإسلام وهو المعني ب { سبيل الله } وجعلت الجملة مستأنفة ، غير معطوفة ، اهتماماً بها أي أنهم ينفقون أموالهم وهي أعز الأشياء عليهم للصد عن الإسلام ، وأتى بصيغة المضارع في { ينفقون } للإشارة إلى أن ذلك دأبهم وأن الإنفاق مستمر لإعداد العُدد لغزو المسلمين ، فإنفاقهم حصل في الماضي ويحصل في الحال والاستقبال ، وأشعرت لام التعليل بأن الإنفاق مستمر لأنه منوط بعلة ملازمة لنفوسهم وهي بغض الإسلام وصدهم الناس عنه .
وهذا الإنفاق : أنهم كانوا يطعمون جيشهم يوم بدر اللحم كل يوم ، وكان المطعمون اثني عشر رجلاً وهم أبو جهل ، وأمية بن خلف ، والعباس بن عبد المطلب وعتبة بن ربيعة ، والحارث بن عامر بن نوفل ، وطعمية بن عدي بن نوفل ، وأبو البَخْترِي والعاصي بن هاشم ، وحكيم بن حزام ، والنضر بن الحارث ، ونُبَيْه بنُ حجاج السهمي ، وأخوه مُنَبه ، وسهيل بن عَمرو العامري ، كانوا يطعمون في كل يوم عشر جزائر . وهذا الإنفاق وقع يوم بدر ، وقد مضى ، فالتعبير عنه بصيغة المضارع لاستحضار حالة الإنفاق وأنها حالة عجيبة في وفرة النفقات .
وهو جمع بالإضافة يجعله من صيغ العموم ، فكأنه قيل ينفقون أموالهم كلها مبالغة ، وإلاّ فإنهم ينفقون بعض أموالهم .
والفاء في { فسينفقونها } تفريع على العلة لأنهم لما كان الإنفاق دأبهم لتلك العلة المذكورة ، كان مما يتفرع على ذلك تكرر هذا الانفاق في المستقبل ، أي ستكون لهم شدائد من بأس المسلمين تضطرهم إلى تكرير الانفاق على الجيوش لدفاع قوة المسلمين .
وضمير { ينفقونها } راجع إلى الأموال لا بقيد كونها المنفَقة بل الأموال الباقية أو بما يكتسبونه .
و { ثم } للتراخي الحقيقي والرتبي ، أي وبعد ذلك تكون تلك الأموال التي ينفقونها حسرة عليهم ، والحسرة شدة الندامة والتلهفُ على ما فات ، وأسندت الحسرة إلى الأموال لأنها سبب الحسرة بإنفاقها . ثم إن الإخبار عنها بنفس الحسرة مبالغة مثل الإخبار بالمصادر ، لأن الأموال سبب التَحَسر لا سبب الحسرة نفسها .
وهذا إنذار بأنهم لا يحصلون من إنفاقهم على طائِل فيما أنفقوا لأجله ، لأن المنفق إنما يتحسر ويندم إذا لم يحصُل له المقصود من إنفاقه . ومعنى ذلك أنهم ينفقون ليغلبوا فلا يغلِبون ، فقد أنفقوا بعد ذلك على الجيش يومَ أُحُد : استأجر أبو سفيان ألفين من الأحابيش لقتال المسلمين يوم أُحُد . والأحابيش : فِرَق من كنانة تجمعت من أفذاذ شتى وحالفوا قريشاً وسكنوا حول مكة سمّو أحابيش جمع أحبوش وهو الجماعة أي الجماعات فكان ما أحرزوه من النصر كِفاءً لنصر يوم بدر ، بل كان نصر يوم بدر أعظمَ .
ولذلك اقتنع أبو سيفيان يوم أُحُد أن يقول « يوم بيوم بدر والحرب سجال » وكان يحسب أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قُتل وأن أبا بكر وعمر قتلا فخاب في حسابه ، ثم أنفقوا على الأحزاب حين هاجموا المدينة ثم انصرفوا بلا طائِل ، فكان إنفاقهم حسرة عليهم .
وقوله : { ثم يُغلبون } ارتقاء في الإنذار بخيبتهم وخذلانهم ، فإنهم بعد أن لم يحصلوا من إنفاقهم على طائِل تُوعدوا بأنهم سيغلبهم المسلمون بعد أن غلبوهم أيضاً يومَ بدر ، وهو إنذار لهم بغلب فتح مكة وانقطاعِ دابر أمرهم ، وهذا كالإنذار في قوله : { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد } [ آل عمران : 12 ] وإسناد الفعل إلى المجهول لكون فاعل الفعل معلوماً بالسياق فإن أهل مكة ما كانوا يقاتلون غير المسلمين وكانت مكة لَقاحاً .
و { ثم } للتراخي الحقيقي والرتبي مثل التي قبلها .
{ والذين كفروا إلى جهنم يحشرون }
كان مقتضى الظاهر أن يقال وإلى حهنم يحشرون كما قال في الآية الأخرى : { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد } [ آل عمران : 12 ] فعدل عن الإضمار هنا إلى الإظهار تخريجاً على خلاف مقتضى الظاهر ، للإفصاح عن التشنيع بهم في هذا الإنذار حتى يعاد استحضار وصفهم بالكفر بإصرح عبارة ، وهذا كقول عويف القوافي :
اللؤْم أكرم من وَبْرٍ ووالِده *** واللؤْم أكرمُ من وَبْر ومَا وَلدَا
لقصد زيادة تشنيع وَبْرٍ المهجو بتقرير اسمه واسم اللؤم الذي شبه به تشبيهاً بليغاً .
وعرّفوا بالموصولية إيماء إلى أن علة استحقاقهم الأمرين في الدنيا والآخرة هو وصف الكفر ، فيعلم أن هذا يحصل لمن لم يقلعوا عن هذا الوصف قبل حلول الأمرين بهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.