{ الشَّيْطَانُ } الذي هو عدوكم في الحقيقة { فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا } أي : لتكن منكم عداوته على بال ، ولا تهملوا محاربته كل وقت ، فإنه يراكم وأنتم لا ترونه ، وهو دائما لكم بالمرصاد .
{ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } هذا غايته ومقصوده ممن تبعه ، أن يهان غاية الإهانة بالعذاب الشديد .
( يا أيها الناس إن وعد الله حق . فلا تغرنكم الحياة الدنيا ، ولا يغرنكم بالله الغرور . إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً . إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ) . .
إن وعد الله حق . . إنه آت لا ريب فيه . إنه واقع لا يتخلف . إنه حق والحق لا بد أن يقع ، والحق لا يضيع ولا يبطل ولا يتبدد ولا يحيد . ولكن الحياة الدنيا تغر وتخدع . ( فلا تغرنكم الحياة الدنيا ) . ولكن الشيطان يغر ويخدع فلا تمكنوه من أنفسكم ( ولا يغرنكم بالله الغرور ) . . والشيطان قد أعلن عداءه لكم وإصراره على عدائكم ( فاتخذوه عدواً )لا تركنوا إليه ، ولا تتخذوه ناصحاً لكم ولا تتبعوا خطاه ، فالعدو لا يتبع خطى عدوه وهو يعقل ! وهو لا يدعوكم إلى خير ، ولا ينتهي بكم إلى نجاة : ( إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ) ! فهل من عاقل يجيب دعوة الداعي إلى عذاب السعير ? !
إنها لمسة وجدانية صادقة . فحين يستحضر الإنسان صورة المعركة الخالدة بينه وبين عدوه الشيطان ، فإنه يتحفز بكل قواه وبكل يقظته وبغريزة الدفاع عن النفس وحماية الذات . يتحفز لدفع الغواية والإغراء ؛ ويستيقظ لمداخل الشيطان إلى نفسه ، ويتوجس من كل هاجسة ، ويسرع ليعرضها على ميزان الله الذي أقامه له ليتبين ، فلعلها خدعة مستترة من عدوه القديم !
وهذه هي الحالة الوجدانية التي يريد القرآن أن ينشئها في الضمير . حالة التوفز والتحفز لدفع وسوسة الشيطان بالغواية ؛ كما يتوفز الإنسان ويتحفز لكل بادر ة من عدوه وكل حركة خفية ! حالة التعبئة الشعوريه ضد الشر ودواعيه ، وضد هواتفه المستسرة في النفس ، وأسبابه الظاهرة للعيان . حالة الاستعداد الدائم للمعركة التي لا تهدأ لحظة ولا تضع أوزارها في هذه الأرض أبداً .
قوله تعالى : { إن الشيطان } الآية ، يقوي قراءة من قرأ «الغَرور » بفتح الغين ، وقوله { فاتخذوه عدواً } أي بالمباينة والمقاطعة والمخالفة له باتباع الشرع ، و «الحزب » الحاشية والصاغية{[9692]} ، واللام في قوله { ليكونوا } لام الصيرورة لأنه لم يدعهم إلى السعير إنما اتفق أن صار أمرهم عن دعائه إلى ذلك ، و { السعير } طبقة من طبقات جهنم وهي سبع طبقات .
لما كان في قوله : { ولا يغرنكم بالله الغرور } [ فاطر : 5 ] إبهام مّا في المراد بالغَرور عُقب ذلك ببيانه بأن الغَرور هو الشيطان ليتقررَ المسند إليه بالبيان بعد الإِبهام . فجملة { إن الشيطان لكم عدو } تتنزل من جملة { ولا يغرنكم بالله الغرور منزلة البيان من المبيَّن فلذلك فصلت ولم تعطف ، وهذا من دلالة ترتيب الكلام على إرادة المتكلم إذ يعلم السامع من وقوع وصف الشيطان عقب وصف الغَرور أن الغرور هو الشيطان .
وأُظهر اسم الشيطان في مقام الإِضمار للإِفصاح عن المراد بالغَرور أنه الشيطان وإثارةُ العداوة بين الناس والشيطان معنى من معاني القرآن تصريحاً وتضمّناً ، وهو هنا صريح كما في قوله تعالى : { وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو } [ البقرة : 36 ] .
وتلك عداوة مودَعة في جبلَّتِه كعداوة الكلب للهرّ لأن جبلة الشيطان موكولة بإيقاع الناس في الفساد وأسوأ العواقب في قوالب محسَّنة مزينة ، وشواهد ذلك تظهر للإِنسان في نفسه وفي الحوادث حيثما عثر عليها وقد قال تعالى : { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة } [ الأعراف : 27 ] .
وتأكيد الخبر بحرف التأكيد لقصد تحقيقه لأنهم بغفلتهم عن عداوة الشيطان كحال من ينكر أن الشيطان عدوّ .
وتقديم { لكم } على متعلَّقة للاهتمام بهذا المتعلّق فرع عنه أن أمروا باتخاذه عدوّاً لأنهم إذا علموا أنه عدوّ لهم حقّ عليهم اتخاذه عدوّاً وإلا لكانوا في حماقة . وفيه تنبيه على وجوب عداوتهم الدعاة في الضلالة المستمدين من الشيطان .
والكلام على لفظ عدوّ تقدم عند قوله تعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم } في سورة النساء ( 92 ) .
واللام في { لكم } لام الاختصاص وهي التي تتضمنها الإِضافة فلما قدم ما حقه أن يكون مضافاً إليه صرح باللام ليحصل معنى الإِضافة .
وإنما أمر الله باتخاذ العدوّ عدواً ولم يندب إلى العفو عنه والإِغضاء عن عداوته كما أمر في قوله : { فمن عفا وأصلح فأجره على الله } [ الشورى : 40 ] ونحو ذلك مما تكرر في القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم لأن ما ندب إليه من العفو إنما هو فيما بين المسلمين بعضهم مع بعض رجاء صلاح حال العدوّ لأن عداوة المسلم عارضة لأغراض يمكن زوالها ولها حدود لا يخشى معها المضار الفادحة كما قال تعالى : { ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } [ فصلت : 34 ] ولذلك لم يأمر الله تعالى بمثل ذلك مع أعداء الدين فقال : { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } [ الممتحنة : 1 ] الآية ، بل لم يأمر الله تعالى بالعفو عن المحاربين من أهل الملّة لأن مناوأتهم غير عارضة بل هي لغرض ابتزاز الأموال ونحو ذلك فقال : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } [ المائدة : 34 ] فعداوة الشيطان لما كانت جبلّية لا يرجى زوالها مع من يعفو عنه لم يأمر الله إلا باتخاذه عدوّاً لأنه إذا لم يتخذ عدوّاً لم يراقب المسلم مكائده ومخادعته .
ومن لوازم اتخاذه عدوّاً العملُ بخلاف ما يدعو إليه لتجنب مكائده ولمقته بالعمل الصالح .
فالإِيقاع بالناس في الضرّ لا يسلم منه أولياؤه ولا أعداؤه ولكن أولياءه يضمِر لهم العداوة ويأنس بهم لأنه يقضي بهم وَطَره وأما أعداؤه فهو مع عداوته لهم يشمئزُّ وينفر ويغتاظ من مقاومتهم وساوِسَه إلى أن يبلغ حدّ الفرار من عظماء الأمة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر : { إيه يا بنَ الخطاب ما رآك الشيطان سالكاً فَجًّا إلا سلك فجَّاً غير فَجِّك } وورد في « الصحيح » " إذا أقيمت الصلاة أدبر الشيطان " الحديث . وورد " أنه ما رِيءَ الشيطانُ أخسأ وأحقر منه في يوم عرفة لما يرى من الرحمة " .
وأعقب الأمر باتخاذ الشيطان عدوّاً بتحذير من قبُول دعوته وحثَ على وجوب اليقظة لتغريره وتجنب توليه بأنه يسعى في ضرّ أوليائه وحزبه فيدعوهم إلى ما يوقعهم في السعير . وهذا يؤكد الأمرَ باتخاذه عدوّاً لأن أشدّ الناس تضرراً به هم حزبه وأولياؤه .
وجملة { إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير } تعليل لجملة { فاتخذوه عدواً } . وجيء بها في صيغة حصر لانحصار دعوته في الغاية المذكورة عقبها بلام العلة كيلا يتوهم أن دعوته تخلو عن تلك الغاية ولو في وقت مّا . وبهذا العموم الذي يقتضيه الحصر صارت الجملة أيضاً في معنى التذييل لما قبلها كله .
ومقتضى وقوع فعل { يدعو } في حيّز القصر أن مفعوله وهو قوله : { حزبه } هو المقصود من القصر ، أي أنه يدعو حزبه ولا يدعو غير حزبه ، والشيطان يدعو الناس كلّهم سواء في ذلك حزبه ومن لم يركن إلى دعوته إلا أن أثر دعوته لا يظهر إلا في الذين يركنون له فيصيرون حزبه قال تعالى له : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } [ الحجر : 42 ] . وحكى الله عن الشيطان بقوله : { لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين } [ الحجر : 39 ، 40 ] فتعين أن في الكلام إيجاز حذف . والتقدير : إنما يدعو حزبه دعوة بالغة مقصده . والقرينة هي ما تقدم من التحذير ولو كان لا يدعو إلا حزبه لما كان لتحذير غيرهم فائدة .
واللام في قوله : { ليكونوا من أصحاب السعير } يجوز أن تكون لام العلة فإن الشيطان قد يكون ساعياً لغاية إيقاع الآدميين في العذاب نكاية بهم ، وهي علة للدعوة مخفية في خاطره الشيطاني وإن كان لا يجهر بها لأن إخفاءها من جملة كيده وتزيينه ، ويجوز أن تكون اللام لام العاقبة والصيرورة مثل { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً } [ القصص : 8 ] قال ابن عطية : لأنه لم يدْعُهم إلى السعير إنما اتفق أن صار أمرهم عن دعائه إلى ذلك .
و { السعير } : النار الشديدة ، وغلب في لسان الشرع على جنهم .