{ فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ } أي : أبصرت { نَارًا } وكان ذلك في جانب الطور الأيمن ، { لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ } تصطلون به { أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى } أي : من يهديني الطريق . وكان مطلبه ، النور الحسي والهداية الحسية ، فوجد ثم النور المعنوي ، نور الوحي ، الذي تستنير به الأرواح والقلوب ، والهداية الحقيقية ، هداية الصراط المستقيم ، الموصلة إلى جنات النعيم ، فحصل له أمر لم يكن في حسابه ، ولا خطر بباله .
فها هو ذا موسى - عليه السلام - في الطريق بين مدين ومصر إلى جانب الطور ها هو ذا عائد بأهله بعد أن قضى فترة التعاقد بينه وبين نبي الله شعيب ، على أن يزوجه إحدى ابنتيه في مقابل أن يخدمه ثماني سنوات أو عشرا . والأرجح أنه وفى عشرا ؛ ثم خطر له أن يفارق شعيبا وأن يستقل بنفسه وبزوجه ، ويعود إلى البلد الذي نشأ فيه ، والذي فيه قومه بنو إسرائيل يعيشون تحت سياط فرعون وقهره .
لماذا عاد . وقد خرج من مصر طريدا . قتل قبطيا فيها حين رآه يقتتل مع إسرائيلي ، وغادر مصر هاربا وبنو إسرائيل فيها يسامون العذاب ألوانا ? حيث وجد الأمن والطمأنينة في مدين إلى جوار شعيب صهره الذي آواه وزوجه إحدى ابنتيه ?
إنها جاذبية الوطن والأهل تتخذها القدرة ستارا لما تهيئه لموسى من أدوار . . وهكذا نحن في هذه الحياة نتحرك . تحركنا أشواق وهواتف ، ومطامح ومطامع ، وآلام وآمال . . وإن هي إلا الأسباب الظاهرة للغاية المضمرة ، والستار الذي تراه العيون لليد التي لا تراها الأنظار ولا تدركها الأبصار . يد المدبر المهيمن العزيز القهار . .
وهكذا عاد موسى . وهكذا ضل طريقه في الصحراء ومعه زوجه وقد يكون معهما خادم . ضل طريقه والليل مظلم ، والمتاهة واسعة . نعرف هذا من قوله لأهله : ( امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى ) . . فأهل البادية يوقدون النار عادة على مرتفع من الأرض ، ليراها الساري في الصحراء ، فتكشف له عن الطريق ، أو يجد عندها القرى والضيافة ومن يهديه إلى الطريق .
ولقد رأى موسى النار في الفلاة . فاستبشر . وذهب ليأتي منها بقبس يستدفى ء به أهله ، فالليلة باردة وليالي الصحراء باردة قارة . أو ليجد عندها من يهديه إلى الطريق ؛ أو يهتدي على ضوئها إلى الطريق .
لقد ذهب يطلب قبسا من النار ؛ ويطلب هاديا في السرى . . ولكنه وجد المفاجأة الكبرى . إنها النار التي تدفىء . لا الأجسام ولكن الأرواح . النار التي تهدي لا في السرى ولكن في الرحلة الكبرى :
{ إذ رأى ناراً } أو نحو هذا ، وكان من قصة موسى عليه السلام أنه رحل من مدين بأهله بنت شعيب وهو يريد أرض مصر وقد طالت مدة جنايته هنالك فرجا خفاء أمره ، وكان فيما يزعمون رجلا غيورا ، فكان يسير الليل بأهله ولا يسير النهار مخافة كشفة الناس ، فضل عن طريقه في ليلة مظلمة وندية ويروى أنه فقد الماء فلم يدر أين يطلبه فبينما هو كذلك وقد قدح بزنده فلم يور شيئاً { إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا } أي أقيموا ، وذهب هو إلى النار فإذا هي مضطرمة في شجرة خضراء يانعة قيل كانت من عناب ، وقيل من عوسج ، وقيل من عليقة ، فلما دنا منها تباعدت منه ومشت ، فإذا رجع عنها اتبعته فلما رأى ذلك أيقن أن هذا أمر من أمور الله تعالى الخارقة للعادة ، وانقضى أمره كله في تلك الليلة ، هذا قول الجمهور ، وهوالحق ، وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال : أقام في ذلك الأمر حولاً ومكثه أهله ع : وهذا غير صحيح عن ابن عباس وضعيف في نفسه . و { آنست } معناه أحسست ومنه قول الحارث بن حلزة : [ الخفيف ]
آنست نبأة وروعها القَنْ . . . ناص ليلاً وقد دنا الإمساء{[1]}
والنار على البعد لا تحس إلا بالأبصار ، فلذلك فسر بعضهم اللفظ ب رأيت ، و «آنس » أعم من { رأى } لأنك تقول آنست من فلان خيراً أو شراً . و «القبس » الجذوة من النار تكون على رأس العود أو القصبة أو نحوه ، و «الهدى » أراد الطريق ، أي لعلي أجد ذا هدى أي مرشداً لي أو دليلا ، وان لم يكن مخبراً . و «الهدى » يعم هذا كله وإنما رجا موسى عليه السلام هدى نازلته فصادف الهدى على الإطلاق ، وفي ذكر قصة موسى بأسرها في هذه السورة تسلية للنبي عما لقي في تبليغه من المشقات وكفر الناس فإنما هي له على جهة التمثيل في أمره . وروي عن نافع وحمزة «لأهلهُ امكثوا » بضمة الهاء وكذلك في القصص{[2]} ، وكسر الباقون الهاء فيهما .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.