تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ خَلَقۡنَٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَٰكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ لَمۡ يَكُن مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ} (11)

يقول تعالى مخاطبا لبني آدم : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ } بخلق أصلكم ومادتكم التي منها خرجتم : أبيكم آدم عليه السلام { ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } في أحسن صورة ، وأحسن تقويم ، وعلمه الله تعالى ما به تكمل صورته الباطنة ، أسماء كل شيء .

ثم أمر الملائكة الكرام أن يسجدوا لآدم ، إكراما واحتراما ، وإظهارا لفضله ، فامتثلوا أمر ربهم ، { فَسَجَدُوا } كلهم أجمعون { إِلَّا إِبْلِيسَ } أبى أن يسجد له ، تكبرا عليه وإعجابا بنفسه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ خَلَقۡنَٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَٰكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ لَمۡ يَكُن مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ} (11)

بعد ذلك تبدأ قصة البشرية بأحداثها المثيرة . . تبدأ بإعلان ميلاد الإنسان في احتفال مهيب ، في رحاب الملأ الأعلى . . يعلنه الملك العزيز الجليل العظيم ؛ زيادة في الحفاوة والتكريم . وتحتشد له الملائكة - وفي زمرتهم وإن لم يكن منهم إبليس - وتشهده السماوات والأرض ؛ وما خلق الله من شيء . . إنه أمر هائل وحدث عظيم في تاريخ هذا الوجود :

( ولقد خلقناكم ، ثم صورناكم ، ثم قلنا للملائكة : اسجدوا لآدم . فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين . قال : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ؟ قال : أنا خير منه ، خلقتني من نار وخلقته من طين . قال : فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها ، فاخرج إنك من الصاغرين . قال : أنظرني إلى يوم يبعثون . قال : إنك من المنظرين . قال : فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم . ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين . قال اخرج منها مذؤوماً مدحوراً ، لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين ) . .

هذا هو المشهد الأول . . وهو مشهد مثير . . ومشهد خطير . . ونحن نؤثر استعراض مشاهد هذه القصة ابتداء ؛ ونرجىء التعليق عليها ، واستلهام إيحاءاتها إلى أن نفرغ من استعراضها . .

( ولقد خلقناكم ، ثم صورناكم ، ثم قلنا للملائكة : اسجدوا لآدم . فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين )

إن الخلق قد يكون معناه : الإنشاء . والتصوير قد يكون معناه : إعطاء الصورة والخصائص . . وهما مرتبتان في النشأة لا مرحلتان . . فإن ( ثم ) قد لا تكون للترتيب الزمني ، ولكن للترقي المعنوي . والتصوير أرقى مرتبة من مجرد الوجود . فالوجود يكون للمادة الخامة ؛ ولكن التصوير - بمعنى إعطاء الصورة الإنسانية والخصائص - يكون درجة أرقى من درجات الوجود . فكأنه قال : إننا لم نمنحكم مجرد الوجود ولكن جعلناه وجوداً ذا خصائص راقية . وذلك كقوله تعالى : ( الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) .

فإن كان شيء أعطي خصائصه ووظائفه وهُدي إلى أدائها عند خلقه . ولم تكن هناك فترة زمنية بين الخلق وإعطاء الخصائص والوظائف والهداية إلى أدائها . والمعنى لا يختلف إذا كان معنى( هَدى ) : هداه إلى ربه . فإنه هُدي إلى ربه عند خلقه . وكذلك آدم صور وأعطي خصائصه الإنسانية عند خلقه . . ( وثم ) . . للترقي في الرتبة ، لا للتراخي في الزمن . كما نرجح .

وعلى أية حال فإن مجموع النصوص القرآنية في خلق آدم عليه السلام ، وفي نشأة الجنس البشري ، ترجح أن إعطاء هذا الكائن خصائصه الإنسانية ووظائفه المستقلة ، كان مصاحباً لخلقه . وأن الترقي في تاريخ الإنسان كان ترقياً في بروز هذه الخصائص ونموها وتدريبها واكتسابها الخبرة العالية . ولم يكن ترقياً في " وجود " الإنسان . من تطور الأنواع حتى انتهت إلى الإنسان . كما تقول الداروينية .

ووجود أطوار مترقية من الحيوان تتبع ترتيباً زمنياً - بدلالة الحفريات التي تعتمد عليها نظرية النشوء والارتقاء - هو مجرد نظرية " ظنية " وليست " يقينية " لأن تقدير أعمار الصخور ذاته في طبقات الأرض ليس إلا ظناً ! مجرد فرض كتقدير أعمار النجوم من إشعاعها . وليس ما يمنع من ظهور فروض أخرى تعدلها أو تغيرها !

على أنه - على فرض العلم اليقيني بأعمار الصخور - ليس هناك ما يمنع من وجود " أنواع " من الحيوان في أزمان متوالية بعضها أرقى من بعض ؛ بفعل الظروف السائدة في الأرض ، ومدى ما تسمح به من وجود أنواع تلائم هذه الظروف السائدة حياتها ، ثم انقراض بعضها حين تتغير الظروف السائدة بحيث لا تسمح لها بالحياة . ولكن هذا لا " يحتم " أن يكون بعضها " متطوراً " من بعض . . وحفريات دارون وما بعدها لا تستطيع أن تثبت أكثر من هذا . . لا تستطيع أن تثبت - في يقين مقطوع به - أن هذا النوع تطور تطورا عضويا من النوع الذي قبله من الناحية الزمنية - وفق شهادة الطبقة الصخرية التي يوجد فيها - ولكنها فقط تثبت أن هناك نوعاً أرقى من النوع الذي قبله زمنياً . . وهذا يمكن تعليله كما قلنا . . بأن الظروف السائدة في الأرض كانت تسمح بوجود هذا النوع . فلما تغيرت صارت صالحة لنشأة نوع آخر فنشأ . ومساعدة على انقراض النوع الذي كان عائشاً من قبل في الظروف الأخرى فانقرض .

وعندئذ تكون نشأة النوع الإنساني نشأة مستقلة ، في الزمن الذي علم الله أن ظروف الأرض تسمح بالحياة والنمو والترقي لهذا النوع ، وهذا ما ترجحه مجموعة النصوص القرآنية في نشأة البشرية .

وتفرد " الإنسان " من الناحية البيولوجية والفسيولوجية والعقلية والروحية . هذا التفرد الذي اضطر الداروينيون المحدثون - وفيهم الملحدون بالله كلية - للاعتراف به ، دليل مرجح على تفرد النشأة الإنسانية ، وعدم تداخلها مع الأنواع الأخرى في تطور عضوي !

على أية حال لقد أعلن الله بذاته العلية الجليلة ميلاد هذا الكائن الإنساني ؛ في حفل حافل من الملأ الأعلى :

( ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم . فسجدوا . إلا إبليس لم يكن من الساجدين ) . .

والملائكة خلق آخر من خلق الله لهم خصائصهم ووظائفهم ؛ لا نعلم عنهم إلا ما أنبأنا الله من أمرهم - وقد أجملنا ما علمنا الله من أمرهم في موضع سابق من هذه الظلال - وكذلك إبليس فهو خلق غير الملائكة . لقوله تعالى : إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه . . والجن خلق غير الملائكة ، لا نعلم عنه كذلك إلا ما نبأنا الله من أمره - وقد أجملنا ما أنبأنا الله به من أمرهم في موضع من هذا الجزء أيضاً - وسيأتي في هذه السورة أن إبليس خلق من نار . فهو من غير الملائكة قطعاً . وإن كان قد أمر بالسجود لآدم في زمرة الملائكة . في ذلك الحفل العظيم الذي أعلن فيه الملك الجليل ، ميلاد هذا الكائن الفريد . .

فأما الملائكة - وهم الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون - فقد سجدوا مطيعين منفذين لأمر الله ، لا يترددون ولا يستكبرون ولا يفكرون في معصية لأي سبب ولأي تصور ولأي تفكير . . هذه طبيعتهم ، وهذه خصائصهم : وهذه وظيفتهم . . وإلى هنا تتمثل كرامة هذا الكائن الإنساني على الله ، كما تتمثل الطاعة المطلقة في ذلك الخلق المسمى بالملائكة من عباد الله .

وأما إبليس فقد امتنع عن تنفيذ أمر الله - سبحانه - وعصاه . وسنعلم : ما الذي حاك في صدره ، وما التصور الذي سيطر عليه فمنعه من طاعة ربه . وهو يعرف أنه ربه وخالقه ، ومالك أمره وأمر الوجود كله ؛ لا يشك في شيء من هذا كله !

وكذلك نجد في المشهد ثلاثة نماذج من خلق الله : نموذج الطاعة المطلقة والتسليم العميق . ونموذج العصيان المطلق والاستكبار المقيت . . وطبيعة ثالثة هي الطبيعة البشرية . وسنعلم خصائصها وصفاتها المزدوجة فيما سيجيء . فأما الطبيعة الأولى فهي خالصة لله ، وقد انتهى دورها في هذا الموقف بهذا التسليم المطلق . وأما الطبيعتان الأخريان ، فسنعرف كيف تتجهان .

/خ25

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ خَلَقۡنَٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَٰكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ لَمۡ يَكُن مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ} (11)

وقوله تعالى : { ولقد خلقناكم ثم صورناكم } الآية ، هذه الآية معناها التنبيه على موضع العبرة والتعجيب من غريب الصنعة وإسداء النعمة ، فبدأ بالخلق الذي هو الإيجاد بعد العدم ثم بالتصوير في هذه البنية المخصوصة للبشر ، وإلا فلم ُيَعَّر المخلوق قط من صورة ، واضطراب الناس في ترتيب هذه الآية لأن ظاهرها يقتضي أن الخلق والتصوير لبني آدم قبل القول للملائكة أن يسجدوا ، وقد صححت الشريعة أن الأمر لم يكن كذلك ، فقالت فرقة : المراد بقوله : { ولقد خلقناكم ثم صورناكم } آدم بنفسه وإن كان الخطاب لبنيه ، وذلك لما كان سبب وجود بنيه بما فعل فيه صح مع تجوز أن يقال إنه فعل في بنيه ، وقال مجاهد : المعنى { ولقد خلقناكم ثم صورناكم } في صلب آدم وفي وقت استخراج ذرية آدم من ظهره أمثال الذر في صورة البشر .

قال القاضي أبو محمد : ويترتب في هذين القولين أن تكون { ثم } على بابها في الترتيب والمهلة ، وقال عكرمة والأعمش : المراد خلقناكم في ظهور الآباء وصورناكم في بطون الأمهات . وقال ابن عباس والربيع بن أنس : أما { خلقناكم } فآدم وأما { صورناكم } فذريته في بطون الأمهات ، وقاله قتادة والضحاك .

وقال معمر بن راشد من بعض أهل العلم : بل ذلك كله في بطون الأمهات ، من خلق وتصوير .

قال القاضي أبو محمد : وقالت هذه الفرقة إن { ثم } لترتيب الأخبار بهذه الجمل لا لترتيب الجمل في أنفسها . وقال الأخفش { ثم } في هذه الآية بمعنى الواو ، ورد عليه نحويو البصرة .

و «ملائكة » وزنه إما مفاعلة وإما معافلة بحسب الاشتقاق الذي قد مضى ذكره في سورة البقرة ، وهنالك ذكرنا هيئة السجود والمراد به ومعنى إبليس وكيف كان قبل المعصية ، وأما قوله في هذه الآية { إلا إبليس } فقال الزجّاج هو استثناء ليس من الأول ولكن إبليس أمر بالسجود بدليل قوله تعالى : { ما منعك ألاَّ تسجد إذ أمرتك } [ الأعراف : 12 ] وقال غير الزجّاج : الاستثناء من الأول لأنّا لو جعلناه منقطعاً على قول من قال إن إبليس لم يكن من الملائكة لوجب أن إبليس لم يؤمر بالسجود ، إلا أن يقول قائل هذه المقالة إن أمر إبليس كان بوجه آخر غير قوله : { اسجدوا } وذلك بيّن الضعف . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «للملائكةُ اسجدوا » بضم الهاء وهي قراءة ضعيفة . ووجهها أنه حذف همزة { اسجدوا } وألقى حركتها عن الهاء ، وذلك لا يتجه لأنها محذوفة مع جر الهاء بحركة ، أي شيء يلغى إنما يكون في الوصل .