على أن الأمر لا ينتهي بالموت أو القتل ؛ فهذه ليست نهاية المطاف . وعلى أن الحياة في الأرض ليست خير ما يمنحه الله للناس من عطاء . فهناك قيم أخرى ، واعتبارات أرقى في ميزان الله :
( ولئن قتلتم - في سبيل الله - أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون . ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون ) . .
فالموت أو القتل في سبيل الله - بهذا القيد ، وبهذا الاعتبار - خير من الحياة ، وخير مما يجمعه الناس في الحياة من أعراضها الصغار : من مال ومن جاه ومن سلطان ومن متاع . خير بما يعقبه من مغفرة الله ورحمته ، وهي في ميزان الحقيقة خير مما يجمعون . وإلى هذه المغفرة وهذه الرحمة يكل الله المؤمنين . . إنه لا يكلهم - في هذا المقام - إلى أمجاد شخصية ، ولا إلى اعتبارات بشرية . إنما يكلهم إلى ما عند الله ، ويعلق قلوبهم برحمة الله . وهي خير مما يجمع الناس على الإطلاق ، وخير مما تتعلق به القلوب من أعراض . .
{ ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم أي متم في سبيله } وقرأ نافع وحمزة والكسائي بكسر الميم من مات يمات . { لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون } جواب القسم وهو ساد مسد الجزاء والمعنى : إن السفر والغزو ليس مما يجلب الموت ويقدم الأجل وإن وقع ذلك في سبيل الله فما تنالون من المغفرة والرحمة بالموت خير مما تجمعون من الدنيا ومنافعها لو لم تموتوا . وقرأ حفص بالياء .
{ وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ فِبَمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنَتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ }
اللام في قوله تعالى : { ولئن قتلتم } هي المؤذنة بمجيء القسم ، واللام في قوله : { لمغفرة } هي المتلقية للقسم ، والتقدير : والله لمغفرة ، وترتب الموت قبل القتل في قوله { ما ماتوا وما قتلوا } [ آل عمران : 156 ] مراعاة لرتبة الضرب في الأرض والغزو فقدم الموت الذي هو بإزاء المتقدم الذكر وهو الضرب ، وقدم القتل في قوله تعالى : { ولئن قتلتم } لأنه ابتداء إخبار ، فقدم الأشرف الأهم ، والمعنى : أو متم في سبيل الله ، فوقع أجركم على الله .
ذكر ترغيباً وترهيباً ، فجعل الموت في سبيل الله والموت في غير سبيل الله ، إذا أعقبتهما المَغفرة خيراً من الحياة وما يجمعون فيها ، وجعل الموت والقتل في سبيل الله وسيلة للحشر والحساب فلْيَعْلَم أحد بماذَا يُلاقي ربّه . والواو للعطف على قوله : { لا تكذبوا كالذين كفروا } وعلى قوله : { والله يحي ويميت } [ آل عمران : 156 ]
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم} في غير قتل {لمغفرة من الله} لذنوبكم {ورحمة خير مما يجمعون} من الأموال.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يخاطب جلّ ثناؤه عباده المؤمنين يقول لهم: لا تكونوا أيها المؤمنون في شكّ من أن الأمور كلها بيد الله، وأن إليه الإحياء والإماتة، كما شكّ المنافقون في ذلك، ولكن جاهدوا في سبيل الله، وقاتلوا أعداء الله على يقين منكم بأنه لا يقتل في حرب، ولا يموت في سفر إلا من بلغ أجله وحانت وفاته. ثم وعدهم على جهادهم في سبيله المغفرة والرحمة، وأخبرهم أن موتا في سبيل الله وقتلاً في الله خير لهم مما يجمعون في الدنيا من حطامها ورغيد عيشها الذي من أجله يتثاقلون عن الجهاد في سبيل الله ويتأخرون عن لقاء العدوّ...
وإنما قال الله عزّ وجلّ: {لَمَغفِرَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ} وابتدأ الكلام: «ولئن متم أو قتلتم» بحذف جزاء «لئن» لأن في قوله: {لَمَغَفِرَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ} معنى جواز للجزاء، وذلك أنه وعد خرج مخرج الخبر. فتأويل الكلام: ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم، ليغفرنّ الله لكم وليرحمنكم، فدلّ على ذلك بقوله: {لَمَغفِرَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ} وجمع مع الدلالة به عليه الخبر عن فضل ذلك على ما يؤثرونه من الدنيا، وما يجمعون فيها. وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أنه إن قيل: كيف يكون: {لَمَغفِرَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ} جوابا لقوله: {وَلَئِنَ قُتِلتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أوْ مُتّمْ} فإن القول فيه أن يقال فيه: كأنه قال: ولئن متم أو قتلتم، فذكر لهم رحمة من الله ومغفرة، إذ كان ذلك في السبيل، فقال: {لَمَغفِرَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ} يقول: لذلك {خَيرٌ مِمّا تَجْمَعُونَ} يعني لتلك المغفرة والرحمة خير مما تجمعون. ودخلت اللام في قوله: {لَمَغفِرَةٌ مِنَ اللّهِ} لدخولها في قوله: «ولئن»، كما قيل: {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُولّنّ الأدْبارَ}.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
إن الموت وإن كان لابد نازل بكم بقتلكم أو موتكم في طاعته وجهاده خير من أن ينزل بكم في غير طاعة الله وسبيله ومغفرة من الله {خير مما يجمعون} من الأموال.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
إن قيل كيف قال: (لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون) مع تفاوت ما بينهما، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول الإنسان: للدرة خير من البعرة؟! قيل: إنما جاز ذلك لأن الناس يؤثرون حال الدنيا على الآخرة، حتى إنهم يتركون الجهاد في سبيل الله محبة للدنيا، والاستكثار منها، وما جمعوا فيها، فإن قيل أين جواب الجزاء ب (إن)؟ قيل: استغني عنه بجواب القسم في قوله: (لمغفرة من الله ورحمة خير) وقد اجتمع شيئان كل واحد منهما يحتاج إلى جواب، فكان جواب القسم أولى بالذكر -لأن له صدر الكلام- مما يذكر في حشوه. فان قيل: لم شرط (لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون) وهو خير كيف تصرفت الحال؟ قلنا: لأنه لا يكون (لمغفرة) بالتعرض للقتل في سبيل الله خيرا من غير أن يقع التعرض لذلك لاستحالة استحقاقها بما لم يكن منه، لأنه لم يفعل... إن قيل: كيف وجب بالتعرض للقتل المغفرة، وإنما تجب بالتوبة؟ قلنا: لأنه يجب به تكفير الصغيرة مع أنه لطف في التوبة من الكبيرة. ومعنى الآية أن المنافقين كانوا يثبطون المؤمنين عن الجهاد، على ما تقدم شرحه في هذه السورة، فبين الله تعالى لو أنكم إن قتلتم أو متم من غير أن تقتلوا (لمغفرة من الله ورحمة) تنالونهما (خير مما يجمعون) من حطام الدنيا، والبقاء فيها، وانتفاعكم في هذه الدنيا، لأن جميع ذلك إلى زوال...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
بذل الروح في الله خير من الحياة بغير الله، والرجوع إلى الله خير لمن عرف الله من البقاء مع غير الله، وما يؤثره العبدُ على الله، فغير مبارك...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كذب الكافرين أوَّلاً في زعمهم أن من سافر من إخوانهم أو غزى لو كان في المدينة لما مات، ونهى المسلمين عن ذلك لأنه سبب التقاعد عن الجهاد، ثم قال لهم: ولئن تم عليكم ما تخافونه من الهلاك بالموت والقتل في سبيل الله، فإنّ ما تنالونه من المغفرة والرحمة بالموت في سبيل الله خير مما تجمعون من الدنيا ومنافعها لو لم تموتوا...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
اللام في قوله تعالى: {ولئن قتلتم} هي المؤذنة بمجيء القسم، واللام في قوله: {لمغفرة} هي المتلقية للقسم، والتقدير: والله لمغفرة، وترتب الموت قبل القتل في قوله {ما ماتوا وما قتلوا} [آل عمران: 156] مراعاة لرتبة الضرب في الأرض والغزو فقدم الموت الذي هو بإزاء المتقدم الذكر وهو الضرب، وقدم القتل في قوله تعالى: {ولئن قتلتم} لأنه ابتداء إخبار، فقدم الأشرف الأهم، والمعنى: أو متم في سبيل الله، فوقع أجركم على الله...
واعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن شبهة المنافقين، وتقريره أن هذا الموت لا بد واقع ولا محيص للإنسان من أن يقتل أو يموت، فإذا وقع هذا الموت أو القتل في سبيل الله وفي طلب رضوانه، فهو خير من أن يجعل ذلك في طلب الدنيا ولذاتها التي لا ينتفع الإنسان بها بعد الموت البتة، وهذا جواب في غاية الحسن والقوة، وذلك لأن الإنسان إذا توجه إلى الجهاد أعرض قلبه عن الدنيا وأقبل على الآخرة، فإذا مات فكأنه تخلص عن العدو ووصل إلى المحبوب، وإذا جلس في بيته خائفا من الموت حريصا على جمع الدنيا، فإذا مات فكأنه حجب عن المعشوق وألقي في دار الغربة، ولا شك في كمال سعادة الأول، وكمال شقاوة الثاني...
[و] اللام في قوله: {ولئن قتلتم}... للتأكيد، فيكون المعنى إن وجب أن تموتوا وتقتلوا في سفركم وغزوكم، فكذلك يجب أن تفوزوا بالمغفرة أيضا، فلماذا تحترزون عنه كأنه قيل: إن الموت والقتل غير لازم الحصول، ثم بتقدير أن يكون لازما فإنه يستعقب لزوم المغفرة، فكيف يليق بالعاقل أن يحترز عنه؟...
قرأ حفص عن عاصم (يجمعون) بالياء على سبيل الغيبة، والباقون بالتاء على وجه الخطاب، أما وجه الغيبة فالمعنى أن مغفرة الله خير مما يجمعه هؤلاء المنافقون من الحطام الفاني، وأما وجه الخطاب فالمعنى أنه تعالى كأنه يخاطب المؤمنين فيقول لهم مغفرة الله خير لكم من الأموال التي تجمعونها في الدنيا...
[و] إنما قلنا: إن رحمة الله ومغفرته خير من نعيم الدنيا لوجوه:
أحدها: أن من يطلب المال فهو في تعب من ذلك الطلب في الحال، ولعله لا ينتفع به غدا لأنه يموت قبل الغد وأما طلب الرحمة والمغفرة فإنه لا بد وأن ينتفع به لأن الله لا يخلف وعده، وقد قال: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره}.
وثانيها: هب أنه بقي إلى الغد لكن لعل ذلك المال لا يبقى إلى الغد، فكم من إنسان أصبح أميرا وأمسى أسيرا، وخيرات الآخرة لا تزول لقوله: {والباقيات الصالحات خير عند ربك} ولقوله: {ما عندكم ينفد وما عند الله باق}.
وثالثها: بتقدير أن يبقى إلى الغد ويبقى المال إلى الغد، ولكن لعله يحدث حادث يمنعك عن الانتفاع به مثل مرض وألم وغيرها، ومنافع الآخرة ليست كذلك.
ورابعها: بتقدير أنه في الغد يمكنك الانتفاع بذلك المال، ولكن لذات الدنيا مشوبة بالآلام ومنافعها مخلوطة بالمضار، وذلك مما لا يخفى، وأما منافع الآخرة فليست كذلك.
وخامسها: هب أن تلك المنافع تحصل في الغد خالصة عن الشوائب ولكنها لا تدوم ولا تستمر، بل تنقطع وتفنى، وكلما كانت اللذة أقوى وأكمل، كان التأسف والتحسر عن فواتها أشد وأعظم، ومنافع الآخرة مصونة عن الانقطاع والزوال.
وسادسها: أن منافع الدنيا حسية ومنافع الآخرة عقلية، والحسية خسيسة، والعقلية شريفة، أترى أن انتفاع الحمار بلذة بطنه وفرجه يساوي ابتهاج الملائكة المقربين عند إشراقها بالأنوار الإلهية، فهذه المعاقد الستة تنبهك على ما لا نهاية لها من الوجوه الدالة على صحة قوله سبحانه وتعالى: {لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون}. فإن قيل: كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما تجمعون، ولا خير فيما تجمعون أصلا. قلنا: إن الذي تجمعونه في الدنيا قد يكون من باب الحلال الذي يعد خيرا، وأيضا هذا وارد على حسب قولهم ومعتقدهم أن تلك الأموال خيرات، فقيل: المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما نهاهم عن قول المنافقين الدائر على تمني المحال من دوام البقاء وكراهة الموت بيّن لهم ثمرة فوات أنفسهم في الجهاد بالموت أو القتل ليكون ذلك مبعداً لهم مما قال المنافقون، موجباً لتسليم الأمر للخالق، بل محبباً فيه وداعياً إليه فقال: {ولئن} وهو حال أخرى من لا "تكونوا "{قتلتم} أي من أي قاتل كان {في سبيل الله} أي الملك الأعظم قتلاً {او متم} أي فيه موتاً على أي حالة كانت. ولما كان للنفوس غاية الجموح عن الموت زاد في التأكيد فقال: {لمغفرة} أي لذنوبكم تنالكم، فهذا تعبد بالخوف من العقاب {من الله} أي الذي له نهاية الكمال بما كنتم عليه من طاعة {ورحمة} أي لأجل ذلك، وهو تعبد لطلب الثواب {خير مما يجمعون} أي مما هو ثمرة البقاء في الدنيا عند أهل الشقاء، مع أنه ما فاتكم شيء من أعماركم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وبيان ذلك أن حظ الحي من هذه الحياة هو ما يجمعه من المال والمتاع الذي تتحقق به شهواته وحظوظه، وما يلاقيه من يقتل أو يموت في سبيل الله من مغفرته تعالى ورحمته فهو خير له من جميع ما يتمتع به في هذه الدار الفانية. والموت في سبيل الله هو الموت في أي عمل من الأعمال التي يعملها الإنسان لله، أي سبيل البر والخير التي هدى الله الإنسان إليها ويرضاها منه. وقد يموت الإنسان في أثناء الحرب من التعب أو غير ذلك من الأسباب التي يأتيها المحارب في أثنائها، فيكون ذلك من الموت في سبيل الله عز وجل. أقول: وهذا هو المقصود هنا أولا وبالذات، لأن السياق في الحرب. ولذلك قدم ذكر القتل على الموت. فإن القتل هو الذي يقع كثيرا في الحرب والموت يكون فيها أقل، فذكره تبعا، بخلاف الآية الآتية.
وحاصل معنى الآية: أن رب العزة يخبرنا مؤكدا خبره بالقسم بأن من يقتل في سبيله أو يموت، فإن ما ينتظره من مغفرةٍ تمحو ما كان من ذنوبه وسيئاته، ورحمةٍ ترفع درجاته خير له مما يجمع الذين يحرصون على الحياة ليتمتعوا بالشهوات واللذات. إذ لا يليق بالمؤمنين الذين يؤثرون مغفرة الله ورحمته الدائمة على الحظوظ الفانية أن يتحسروا على من يقتل منهم أو يموت في سبيل الله، ويودوا لو يكونوا خرجوا من دورهم إلى حيث لقوا حتفهم. فإن ما يلقونه بعد هذا الحتف خير مما كانوا فيه قبله. وبهذا الذي بينته تظهر نكتة الخطاب في أول الآية والغيبة في آخرها. وكذا تنكير مغفرة ورحمة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
على أن الأمر لا ينتهي بالموت أو القتل؛ فهذه ليست نهاية المطاف. وعلى أن الحياة في الأرض ليست خير ما يمنحه الله للناس من عطاء. فهناك قيم أخرى، واعتبارات أرقى في ميزان الله... فالموت أو القتل في سبيل الله -بهذا القيد، وبهذا الاعتبار- خير من الحياة، وخير مما يجمعه الناس في الحياة من أعراضها الصغار: من مال ومن جاه ومن سلطان ومن متاع. خير بما يعقبه من مغفرة الله ورحمته، وهي في ميزان الحقيقة خير مما يجمعون. وإلى هذه المغفرة وهذه الرحمة يكل الله المؤمنين.. إنه لا يكلهم -في هذا المقام- إلى أمجاد شخصية، ولا إلى اعتبارات بشرية. إنما يكلهم إلى ما عند الله، ويعلق قلوبهم برحمة الله. وهي خير مما يجمع الناس على الإطلاق، وخير مما تتعلق به القلوب من أعراض..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
..ذكر ترغيباً وترهيباً، فجعل الموت في سبيل الله والموت في غير سبيل الله، إذا أعقبتهما المَغفرة خيراً من الحياة وما يجمعون فيها، وجعل الموت والقتل في سبيل الله وسيلة للحشر والحساب فلْيَعْلَم أحد بماذَا يُلاقي ربّه...
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
ذكر في هذه الآية الكريمة أن المقتول في الجهاد والميت كلاهما ينال مغفرة من اللَّه ورحمة خيرًا له مما يجمعه من حطام الدنيا وأوضح وجه ذلك في آية أخرى بيّن فيها أن اللَّه اشترى منه حياة قصيرة فانية منغصة بالمصائب والآلام بحياة أبدية لذيذة لا تنقطع ولا يتأذى صاحبها بشيء واشترى منه مالاً قليلاً فانيًا بملك لا ينفذ ولا ينقضي أبدًا، وهي قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم 111}، وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً 20}، وبيّن في آية أخرى أن فضل اللَّه ورحمته خير مما يجمعه أهل الدنيا من حطامها وزاد فيها الأمر بالفرح بفضل اللَّه ورحمته دون حطام الدنيا، وهي قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ 58}، وتقديم المعمول يؤذن بالحصر أعني قوله: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ}، أي: دون غيره فلا يفرحوا بحطام الدنيا الذي يجمعونه. وقال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبّكَ خَيْرٌ مما يجمعون 32}...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
اشتمل الكلام على قسم وجملة شرطية واقعة، فالله سبحانه وتعالى يقسم وهو العزيز الحكيم بأن من يموت او يقتل في سبيل الله طالبا رضاه محتسبا النية في جهاده يناله جزاءان عظيمان:أحدهما- ان يغفر الله تعالى ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وتلك نعمة عظيمة، لا يشعر بها إلا من يشعر بتقصيره ويحاول رضا مولاه، ويغلب الخوف على الرجاء، ويستصغر حسناته بجوار ما يرتكب من هفوات، وتلك مرتبة الصديقين والشهداء والصالحين، وذلك ما يتضمنه الوعد بالمغفرة من رضوان الله تعالى، فإن الله تعالى لا يغفر إلا لمن يرضى عنه، ويذهب عنه سخطه سبحانه وتعالى، ففي الوعد بالمغفرة نعمة الغفران، ونعمة الرضوان وهو أكبر. الأمر الثاني- الرحمة من الله تعالى، ورحمة الله تعالى تتضمن الثواب، والنعيم المقيم يوم القيامة، وذكر رحمة الله تعالى في هذا المقام لكيلا تذهب نفوس المؤمنين حسرة على ما ماتوا منهم، فإنهم ليسوا في شقاء بل هم في نعيم، {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل احياء عند ربهم يرزقون169} [آل عمران]...
[ثم] إنه ذكر ان الموت قد يكون في سبيل الله وذلك إذا كان المؤمن يعيش طول حياته مخلصا لله وللحق وللمعرفة والهداية يحب الشيء لا يحبه إلا لله تعالى، وكان الله ورسوله احب إليه من نفسه، فإن من يكون كذلك يعيش لله وفي سبيل الله ويموت في سبيل الله.
الذي يحرص على ألا يخوض المعركة مخافة أن يُقتل، فما الذي يرجح عنده هذا العمل؟ إنه يبتغي الخير بالحياة. وما دام يبتغي الخير بالحياة، إذن فحركته في الحياة في وهمه ستأتيه بخير، فهو يخشى أن يموت ويترك ذلك الخير، إنه لم يمتلك بصيرة إيمانية، ونقول له: الخير في حياتك على قدر حركتك: قوة وعلما وحكمة، أما تمتعك حين تلتقي بالله شهيداً فعلى قدر ما عند الله من فضل ورحمة وهي عطاءات بلا حدود، إذن فأنت ضيعت على نفسك الفرق بين قُدرتك وحِكمتك وعِلمك وحَركتك في الكسب وبين ما يُنسب إلى الله في كل ذلك...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إنَّ المؤمنين الذين يعيشون حياتهم في خطّ الطاعة للّه والجهاد في سبيله، فيقتلون في سبيل اللّه أو يموتون في طريق الطاعة، لا يعيشون الشعور بالخسارة إزاء الموت، بل يتطلّعون إلى الربح الأعلى، لأنَّ الإيمان يخضع المشاعر الإيمانية للتطلّع إلى ما عند اللّه من المغفرة والرحمة، لأنَّها السبيل الوحيد إلى الطمأنينة والسعادة الخالدة التي تصغر أمامها كلّ رغبات الدُّنيا وامتيازاتها وشهواتها وأموالها، لأنَّها النعيم الزائل الذي لا يخلو من الكثير من الآلام، بينما تمثِّل الآخرة في نعيمها الخلود واللذة التي لا يشوبها الألم من قريب أو من بعيد. وفي ضوء ذلك، لا بُدَّ للمؤمنين من استقبال أخطار الجهاد بالإقدام والإرادة القويّة بعيداً عن كلّ السلبيّات العاطفية، ليستقبلوا ألطاف اللّه في مغفرته ورحمته.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ إنكم حتّى إذا متم أو قتلتم، وبلغكم الموت المعجل كما يحسب المنافقون فإنكم لم تخسروا شيئاً، لأن رحمة الله وغفرانه أعظم وأعلى من كلّ ما تجمعه أيديكم أو يجمعه المنافقون مع الاستمرار في الحياة من الأموال والثروات (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون).
وأساساً لا تصحّ المقارنة بين هذين الأمرين فأين الثرى من الثريا، ولكنه أمر لا مفر منه عند مخاطبة تلك العقول المنحطة التي تفضل أياماً معدودة من الحياة الفانية وجفنة من الثروة الزائلة على عزة الجهاد وفخر الشهادة.
إنه ليس من سبيل أمام هؤلاء إلاّ أن يقال لهم: إن ما يحصل عليه المؤمنون عن طريق الشهادة أو الموت في سبيل الله، أفضل من كلّ ما يجمعه الكفّار من طريق حياتهم الموبوءة، المزيجة بالشهوات الرخيصة وعبادة المال والدنيا.