ثم قال تعالى : { ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما تجمعون } .
واعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن شبهة المنافقين ، وتقريره أن هذا الموت لا بد واقع ولا محيص للإنسان من أن يقتل أو يموت ، فإذا وقع هذا الموت أو القتل في سبيل الله وفي طلب رضوانه ، فهو خير من أن يجعل ذلك في طلب الدنيا ولذاتها التي لا ينتفع الإنسان بها بعد الموت ألبتة ، وهذا جواب في غاية الحسن والقوة ، وذلك لأن الإنسان إذا توجه إلى الجهاد أعرض قلبه عن الدنيا وأقبل على الآخرة ، فإذا مات فكأنه تخلص عن العدو ووصل إلى المحبوب ، وإذا جلس في بيته خائفا من الموت حريصا على جمع الدنيا ، فإذا مات فكأنه حجب عن المعشوق وألقي في دار الغربة ، ولا شك في كمال سعادة الأول ، وكمال شقاوة الثاني .
المسألة الأولى : قرأ نافع وحمزة والكسائي ( متم ) بكسر الميم ، والباقون بضم الميم ، والأولون أخذوه من : مات يمات مت ، مثل هاب يهاب هبت ، وخاف يخاف خفت ، وروي المبرد هذه اللغة فإن صح فقد صحت هذه القراءة ، وأما قراءة الجمهور فهو مأخوذ من مات يموت مت ، مثل : قال يقول قلت .
المسألة الثانية : قال الواحدي رحمه الله : اللام في قوله : { ولئن قتلتم } لام القسم ، بتقدير والله لئن قتلتم في سبيل الله ، واللام في قوله : { لمغفرة من الله ورحمة } جواب القسم ، ودال على أن ما هو داخل عليه جزاء ، والأصوب عندي أن يقال : هذه اللام للتأكيد ، فيكون المعنى إن وجب أن تموتوا وتقتلوا في سفركم وغزوكم ، فكذلك يجب أن تفوزوا بالمغفرة أيضا ، فلماذا تحترزون عنه كأنه قيل : إن الموت والقتل غير لازم الحصول ، ثم بتقدير أن يكون لازما فإنه يستعقب لزوم المغفرة ، فكيف يليق بالعاقل أن يحترز عنه ؟
المسألة الثالثة : قرأ حفص عن عاصم ( يجمعون ) بالياء على سبيل الغيبة ، والباقون بالتاء على وجه الخطاب ، أما وجه الغيبة فالمعنى أن مغفرة الله خير مما يجمعه هؤلاء المنافقون من الحطام الفاني ، وأما وجه الخطاب فالمعنى أنه تعالى كأنه يخاطب المؤمنين فيقول لهم مغفرة الله خير لكم من الأموال التي تجمعونها في الدنيا .
المسألة الرابعة : إنما قلنا : إن رحمة الله ومغفرته خير من نعيم الدنيا لوجوه : أحدها : أن من يطلب المال فهو في تعب من ذلك الطلب في الحال ، ولعله لا ينتفع به غدا لأنه يموت قبل الغد وأما طلب الرحمة والمغفرة فإنه لا بد وأن ينتفع به لأن الله لا يخلف وعده ، وقد قال : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } وثانيها : هب أنه بقي إلى الغد لكن لعل ذلك المال لا يبقى إلى الغد ، فكم من إنسان أصبح أميرا وأمسى أسيرا ، وخيرات الآخرة لا تزول لقوله :
{ والباقيات الصالحات خير عند ربك } ولقوله : { ما عندكم ينفد وما عند الله باق } وثالثها : بتقدير أن يبقى إلى الغد ويبقى المال إلى الغد ، ولكن لعله يحدث حادث يمنعك عن الانتفاع به مثل مرض وألم وغيرها ، ومنافع الآخرة ليست كذلك . ورابعها : بتقدير أنه في الغد يمكنك الانتفاع بذلك المال ، ولكن لذات الدنيا مشوبة بالآلام ومنافعها مخلوطة بالمضار ، وذلك مما لا يخفى ، وأما منافع الآخرة فليست كذلك . وخامسها : هب أن تلك المنافع تحصل في الغد خالصة عن الشوائب ولكنها لا تدوم ولا تستمر ، بل تنقطع وتفنى ، وكلما كانت اللذة أقوى وأكمل ، كان التأسف والتحسر عن فواتها أشد وأعظم ، ومنافع الآخرة مصونة عن الانقطاع والزوال . وسادسها : أن منافع الدنيا حسية ومنافع الآخرة عقلية ، والحسية خسيسة ، والعقلية شريفة ، أترى أن انتفاع الحمار بلذة بطنه وفرجه يساوي ابتهاج الملائكة المقربين عند إشراقها بالأنوار الإلهية ، فهذه المعاقد الستة تنبهك على ما لا نهاية لها من الوجوه الدالة على صحة قوله سبحانه وتعالى : { لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون } .
فإن قيل : كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما تجمعون ، ولا خير فيما تجمعون أصلا .
قلنا : إن الذي تجمعونه في الدنيا قد يكون من باب الحلال الذي يعد خيرا ، وأيضا هذا وارد على حسب قولهم ومعتقدهم أن تلك الأموال خيرات ، فقيل : المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.