البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَئِن قُتِلۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوۡ مُتُّمۡ لَمَغۡفِرَةٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَحۡمَةٌ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (157)

{ ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون } تقدم قبل هذا تكذيب الكفار في دعواهم : أنّ من مات أو قتل في سفر وغزو لو كان أقام ما مات وما قتل ، ونهى المؤمنين عن أن يقولوا مثل هذه المقالة ، لأنها سبب للتخاذل عن الغزو وأخبر في هذه الجملة أنه أنْ تم ما يحذرونه من القتل في سبيل الله أو الموت فيه ، فما يحصل لهم من مغفرة الله ورحمته بسبب ذلك خير مما يجمعون من حطام الدنيا ومنافعها ، لو لم يهلكوا بالقتل أو الموت ، وأكد دلك بالقسم .

لأن اللام في لئن هي الموطئة للقسم ، وجواب القسم هو : لمغفرة .

وكان نكرة إشارة إلى أن أيسر جزء من المغفرة والرحمة خير من الدنيا ، وأنه كاف في فوز المؤمن .

وجاز الابتداء به لأنه وصف بقوله من الله .

وعطف عليه نكرة ومسوغ الابتداء بها ، كونها عطفت على ما يسوغ به الابتداء .

أو كونها موصوفة في المعنى إذ التقدير : ورحمة منه .

وثمَّ صفة أخرى محذوفة لا بدّ منها وتقديرها : ورحمة لكم .

وخير هنا على بابها من كونها افعل تفضيل ، كما روي عن ابن عباس : خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء .

وارتفاع خير على أنه خبر عن قوله : لمغفرة .

قال ابن عطية وتحتمل الآية أن يكون قوله : لمغفرة إشارة إلى القتل أو الموت في سبيل الله ، فسمى ذلك مغفرة ورحمة ، إذ هما مقترنان به .

ويجيء التقدير لذلك : مغفرة ورحمة .

وترتفع المغفرة على خبر الابتداء المقدر .

وقوله : خير صفة لا خبر ابتداء انتهى قوله .

وهو خلاف الظاهر .

وجواب الشرط الذي هو إنْ قتلتم محذوف ، لدلالة جواب القسم عليه .

وقول الزمخشري : سدَّ مسدَّ جواب الشرط إنْ عنى أنه حذف لدلالته عليه فصحيح ، وإنْ عنى أنه لا يحتاج إلى تقدير فليس بصحيح .

وظاهر الآية يدل على أنه جعلت المغفرة والرحمة لمن اتفق له أحد هذين : القتل في سبيل الله ، أو الموت فيه .

وقال الرازي : لمغفرة من الله إشارة إلى تعبده خوفاً من عقابه ، ورحمة إشارة إلى تعبده لطلب ثوابه انتهى .

وليس بالظاهر .

وقدم القتل هنا لأنه ابتداء إخبار ، فقدّم الأشرف الأهم في تحصيل المغفرة والرحمة ، إذ القتل في سبيل الله أعظم ثواباً من الموت في سبيله .

قال الراغب : تضمنت هاتان الآيتان إلزاماً هو جار مجرى قياسين شرطيين اقتضيا الحرص على القتل في سبيل الله تمثيله : إنْ قتلتم في سبيل الله ، أو متّم ، حصلت لكم المغفرة والرحمة ، وهما خير مما تجمعون .

فإذاً الموت والقتل في سبيل الله خير مما تجمعون .

ولئن متم أو قتلتم فالحشر لكم حاصل .

وإذا كان الموت والقتل لا بد منه والحشر فنتيجة ذلك أن القتل والموت اللذين يوجبان المغرفة والرحمة خير من القتل والموت اللذين لا يوجبانهما انتهى .

وقرأ الإبنان والأبوان بضم الميم في جميع القرآن ، وحفص في هذين أو متمم ، ولئن متم ، وكسر الباقون .

والضم أقيس وأشهر .

والكسر مستعمل كثيراً وهو شاذ في القياس ، جعله المازني من فعل يفعل ، نظير دمت تدوم ، وفضلت تفضل ، وكذا أبو علي ، فحكما عليه بالشذوذ .

وقد نقل غيرهما فيه لغتين إحداهما : فعل يفعل ، فتقول مات يموت .

والأخرى : فعل يفعل نحو مات يمات ، أصله موت .

فعلى هذا ليس بشاذ ، إذ هو مثل خاف يخاف ، فأصله موت يموت .

فمن قرأ بالكسر فعلى هذه اللغة ولا شذوذ فيه ، وهي لغة الحجاز يقولون : متم من مات يمات قال الشاعر :

عيشي ولا تومي بأن تماتي ***

وسفلى مضر يقولون : مُتّم بضم الميم من مات يموت ، نقله الكوفيون : وقرأ الجمهور : تجمعون بالتاء على سياق الخطاب في قوله : ولئن قتلتم .

وقرأ قوم منهم حفص عن عاصم بالياء ، أي مما يجمعه الكفار المنافقون وغيرهم .

/خ159