اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَئِن قُتِلۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوۡ مُتُّمۡ لَمَغۡفِرَةٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَحۡمَةٌ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (157)

قوله : { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ } اللام هي الموطئة لقسم محذوف ، وجوابه قوله : { لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } وحُذِفَ جوابُ الشرط ؛ لسَدِّ جواب القسم مسده ؛ لكونه دالاً عليه وهذا ما عناه الزمخشريُّ بقوله : وهو ساد مسدَّ جواب الشرط . ولا يعني بذلك أنه من غير حذف .

قوله : { أَوْ مُتُّمْ } قرأ نافع وحمزة والكسائي " مِتُّمْ " - بكسر الميم{[6130]} - والباقون بضمها ، فالضَّمُّ مِنْ مَاتَ يَمُوتُ مُتُّ - مثل : قَالَ يَقُولُ قُلْتُ ، ومن كسر ، فهو من مَاتَ يَماتُ مِتُّ ، مثل : هَابَ يَهَابُ هِبْتُ ، وخَاَفَ يَخَافُ خِفْتُ . روى المبرِّدُ هذه اللغة .

قال شهابُ الدينِ : وهو الصحيحُ من قول أهل العربية ، والأصل : مَوْتَ - بكسر العين - كخَوِفَ ، فجاء مضارعه على يَفْعَل - بفتح العين - .

قال الشاعر : [ الرجز ]

بُنَيَّتِي يَا أسْعَدَ الْبَنَاتِ *** عِيشي ، وَلاَ نأمَنُ أنْ تَمَاتِي{[6131]}

فجاء بمضارعِهِ على يَفْعَل - بالفتح - فعلى هذه اللغة يلزم أن يقال في الماضي المسند إلى التاء ، أو إحدى أخواتها : مِتُّ -بالكسر ليس إلا- وهو أنا نقلنا حركة الواو إلى الفاء بعد سلب حركتها ، دلالة على بنية الكلمة في الأصل ، هذا أوْلَى من قول من يقول : إن مِتُّ - بالكسر - مأخوذة من لغة من يقول يموت - بالضم في المضارع - وجعلوا ذلك شاذاً في القياس كثيراً في الاستعمال ، كالمازني وأبي علي الفارسي - ونقله بعضُهُمْ عن سيبويه صريحاً ، وإذا ثبت ذلك لغةً ، فلا معنى إلى ادَّعاء الشذوذ فيه .

قوله : { لَمَغْفِرَةٌ } اللام لامُ الابتداءِ ، وهي ما بعدها جواب القسم - كما تقدم - وفيها وجهان :

الأول - وهو الأظهر - : أنها مرفوعة بالابتداء ، والمسوِّغات - هنا - كثيرة : لام الابتداء ، والعطف عليها في قوله : { وَرَحْمَةٌ } ووصفها ، فإن قوله { مِّنَ اللَّهِ } صفة لها ، ويتعلق - حينئذٍ – بمحذوف ، و " خيرٌ " خبر عنها .

والثاني : أن تكون مرفوعةً على خبر ابتداءٍ مُضْمَرٍ - إذا أُرِيدَ بالمغفرة والرحمة القتل ، أو الموت في سبيل الله ؛ لأنهما مقترنان بالموت في سبيل الله - فيكون التقدير : فذلك ، أي : الموت أو القتل في سبيل الله - مغفرة ورحمة خير ، ويكون " خيرٌ " صفة لا خبراً ، وإلى هذا نحا ابنُ عطيةَ ؛ فإنه قال : وتحتمل الآية أن يكون قوله : { لَمَغْفِرَةٌ } إشارة إلى الموت ، أو القتل في سبيل الله ، فسمى ذلك مغفرة ورحمة ؛ إذ هما مقترنان به ، ويجيء التقديرُ : لذلك مغفرةٌ ورحمةٌ ، وترتفع المغفرةُ على خبر الابتداء المقدر ، وقوله : " خير " صفة لا خبر ابتداء انتهى ، والأول أظهر . و " خير " - هنا - على بابها من كونها للتفضيل وعن ابن عباسٍ : خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء .

قال ابن الخطيبِ : " والأصوب - عندي - أن يقال : إن هذه اللام في " المغفرة " للتأكيد ، فيكون المعنى : إن وجب أن تموتوا ، أو تُقْتَلوا ، في سفركم أو غزوكم ، فكذلك وجب أن تفوزوا بالمغفرة - أيضاً - فلماذا تَحْتَرزون عنه ؟ كأنه قيل : إن الموت والقتل غير لازم الحصولِ ، ثُمَّ بتقدير أن يكون لازماً ، فإنه يستعقب لزوم المغفرةِ ، فكيف يليق بالعاقل أن يحترز عنه " ؟

قوله : { وَرَحْمَةٌ } أي : ورحمة من الله ، فحذف صفتها لدلالة الأولى عليها ، ولا بُدَّ من حذف آخر ، مصحِّح للمعنى ، وتقديره : لمغفرةٌ لكم من الله ، ورحمة منه لكم .

فإن قيل : المغفرة هي الرحمة ، فلِمَ كرَّرها ، ونكَّرَها ؟

فالجوابُ : أما التنكير فإن ذلك إيذان بأن أدنى خير أقل شيءٍ خير من الدنيا وما فيها ، وهو المراد بقوله : " مما تجمعون " ونظيره قوله تعالى : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ }

[ التوبة : 72 ] والتنكير قد يشعر بالتقليل ، وأما التكرير فلا نسلمه ؛ لأن المغفرة مرتبة على الرحمة ، فيرحم ، ثم يغفر .

قوله : " مما يجمعون " " ما " موصولة اسمية ، والعائدُ محذوفٌ ، ويجوز أن تكون مصدرية .

وعلى هذا فالمفعول به محذوف ، أي : من جمعكم المال ونحو .

وقراءة الجماعة " تجمعون " - بالخطاب - جَرياً على قوله : " ولئن قتلتم " وحفص - بالغيبة{[6132]} - إما على الرجوع على الكفار المتقدمين ، وإما على الالتفات من خطاب المؤمنين .

فإن قيل : ههنا ثلاثة مواضع ، تقدم الموت على القتل في الأول والأخير ، وقُدِّم القتل على الموت في المتوسط فما الحكمةُ في ذلك ؟

فالجوابُ : أن الأولَ لمناسبة ما قبله ، من قوله : { إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى } فرجع الموت لمن ضرب في الأرض ، والقتل لمن غزا ، وأما الثاني فلأنه مَحَلّ تحريض على الجهادِ ، فقُدِّمَ الأهَمّ الأشرف ، وأما الأخير فلأن الموت أغلب .

فإن قيل : كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما يجمعون ولا خير فيما يجمعونه أصلاً .

فالجوابُ : أنَّ الذي يجمعونه في الدُّنيا قد يكون من الحلال الذي يُعَدُّ خيراً ، وأيضاً هذا واردٌ على حسب قولهم ومُعْتَقَدهم أن تلك الأموال خيرات .

فقيل : المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات .


[6130]:انظر: السبعة 218، والحجة 3/92، 93، وحجة القراءات 178، 179، والعنوان 81، وإعراب القراءات 1/121، وشرح شعلة 324، وشرح الطيبة 4/170، 171، وإتحاف 1/492.
[6131]:تقدم برقم 254.
[6132]:انظر: السبعة 218، والحجة 3/94، والعنوان 81، وإعراب القراءات 1/121، وشرح الطيبة 4/172، وشرح شعلة 325، وإتحاف 1/493.