{ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ } المكذبين ، فلم أعاجلهم بالعقوبة ، بل أمهلتهم ، حتى استمروا في طغيانهم يعمهون ، وفي كفرهم وشرهم يزدادون ، { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ } بالعذاب أخذ عزيز مقتدر { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي : إنكاري عليهم كفرهم ، وتكذيبهم كيف حاله ، كان أشد العقوبات ، وأفظع المثلات ، فمنهم من أغرقه ، ومنهم من أخذته الصيحة ، ومنهم من أهلك بالريح العقيم ، ومنهم من خسف به الأرض ، ومنهم من أرسل عليه عذاب يوم الظلة ، فليعتبر بهم هؤلاء المكذبون ، أن يصيبهم ما أصابهم ، فإنهم ليسوا خيرا منهم ، ولا كتب لهم براءة في الكتب المنزلة من الله ، وكم من المعذبين المهلكين أمثال هؤلاء كثير ، ولهذا قال : { فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ }
ويفرد موسى بفقرة خاصة : ( وكذب موسى )أولا . لأنه لم يكذب من قومه كما كذب هؤلاء من قومهم ، إنما كذب من فرعون وملئه . وثانيا لوضوح الآيات التي جاء بها موسى وتعددها وضخامة الأحداث التي صاحبتها . . وفي جميع تلك الحالات أملى الله للكافرين حينا من الزمان - كما يملي لقريش - ثم أخذهم أخذا شديدا . . وهنا سؤال للتهويل والتعجيب : ( فكيف كان نكير ? ) . . والنكير هو الإنكار العنيف المصحوب بالتغيير . والجواب معروف . فهو نكير مخيف ! نكير الطوفان والخسف والتدمير والهلاك والزلازل والعواصف والترويع . .
يقول تعالى مسليا نبيَّه محمدا صلى الله عليه وسلم في تكذيب من خالفه من قومه : { وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } إلى أن قال{[20318]} : { وَكُذِّبَ مُوسَى } أي : مع ما جاء به من الآيات البينات والدلائل الواضحات .
{ فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ } أي : أنظرتهم وأخرتهم ، { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي : فكيف كان إنكاري عليهم ، ومعاقبتي لهم ؟ !
ذكر بعض السلف أنه كان بين قول فرعون لقومه : { أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى } [ النازعات : 24 ] ، وبين إهلاك الله له أربعون سنة .
وفي الصحيحين عن أبي موسى ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه ، ثم قرأ : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود : 102 ] {[20319]} .
قال : { وكذب موسى } لأن مُكذّبيه هم القبط قوم فرعون ولم يكذبه قومه بنو إسرائيل .
وقوله : { فأمليتُ للكافرين } معناه فأمليت لهم ، فوُضع الظاهر موضع الضمير للإيماء إلى أن علة الإملاء لهم ثم أخذِهم هو الكفر بالرسُل تعريضاً بالنذارة لمشركي قُريش .
والأخذ حقيقته : التناول لِما لم يكن في اليد ، واستعير هنا للقدرة عليهم بتسليط الإهلاك بعد إمهالهم ، ومناسبة هذه الاستعارة أن الإملاء لهم يشبه بعد الشيء عن متناوله فشبّه انتهاءُ ذلك الإملاء بالتناول ، شبه ذلك بأخذ الله إياهم عنده ، لظهور قدرته عليهم بعد وعيدهم ، وهذا الأخذ معلوم في آيات أخرى عدا أن قوم إبراهيم لم يتقدم في القرآن ذكر لعذابهم أو أخذهم سوى أن قوله تعالى في [ سورة الأنبياء : 70 ] { وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين } مشير إلى سُوءِ عاقبتهم مما أرادوا به من الكيد ، وهذه الآية صريحة في ذلك كما أشرنا إليه هنالك .
ومناسبة عَدّ قوم إبراهيم هنا في عداد الأقوام الذين أخذهم الله دون الآيات الأخرى التي ذُكر فيها من أُخذوا من الأقوام ، أنّ قوم إبراهيم أتمّ شبهاً بمشركي قُريش في أنهم كذبوا رسولهم وآذوه . وألجأوه إلى الخروج من موطنه { وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين } [ الصافات : 99 ] . فكان ذكر إلجاء قريش المؤمنين إلى الخروج من موطنهم في قوله : { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق } [ الحج : 40 ] مناسبةٌ لذكر قوم إبراهيم .
والإملاءُ : ترك المتلبّس بالعِصيان دون تعجيل عقوبته وتأخيرها إلى وقت متأخر حتى يحسب أنه قد نَجا ثم يؤخذ بالعقوبة .
والفاء في { فأمليت للكافرين } للتعقيب دلالة على أن تقدير هلاكهم حاصل من وقت تكذيبهم وإنما أُخر لهم ، وهو تعقيب موزع ، فلكل قوم من هؤلاء تعقيبُ إملائه ، والأخذ حاصل بعد الإملاء بمهلة ، فلذلك عطف فعلُه بحرف المهلة .
وعطفت جملة { فكيف كان نكير } بالفاء لأنّ حق ذلك الاستفهام أن يحصل عند ذكر ذلك الأخذ ، وهو استفهام تعجيبي ، أي فأعْجَب من نكيري كيف حصل . ووجه التعجيب منه أنهم أبدلوا بالنعمة مِحنة ، وبالحياة هلاكاً ، وبالعمارة خراباً فهو عبرة لغيرهم .
والنكير : الإنكار الزجري لتغيير الحالة التي عليها الذي يُنكَر عليه :
و { نكيرِ } بكسرة في آخره دالة على ياء المتكلم المحذوفة تخفيفاً .
وكأنّ مناسبة اختيار النكير في هذه الآية دون العذاب ونحوه أنه وقع بعد التنويه بالنهي عن المنكر لينبه المسلمين على أن يبذلوا في تغيير المنكر منتهى استطاعتهم ، فإن الله عاقب على المنكر بأشد العقاب ، فعلى المؤمنين الائتساء بصنع الله ، وقد قال الحكماء : إنّ الحكمة هي التشبه بالخالق بقدر ما تبلغه القوة الإنسانية ، وفي هذا المجال تتسابق جياد الهمم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.