وكان الضيق بما هم فيه من انحراف قد بلغ منه أقصاه وأتعب قلبه وقواه ، فلما دعي إلى مغادرة المعبد ، قلب نظره إلى السماء ، وقال : ( إني
سقيم ) . . لا طاقة لي بالخروج إلى المتنزهات والخلوات . فإنما يخرج إليها طلاب اللذة والمتاع ، أخلياء القلوب من الهم والضيق - وقلب إبراهيم لم يكن في راحة ونفسه لم تكن في استرواح .
قال ذلك معبراً عن ضيقه وتعبه . وأفصح عنه ليتركوه وشأنه . ولم يكن هذا كذباً منه . إنما كان له أصل في واقع حياته في ذلك اليوم . وإن الضيق ليمرض ويسقم ذويه !
فقال : { إِنِّي سَقِيمٌ } أي : ضعيف .
فأما الحديث الذي رواه ابن جرير هاهنا : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا أبو أسامة ، حدثني هشام ، عن محمد ، عن أبي هريرة{[25011]} ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، غير ثلاث كذبات : ثنتين في ذات الله ، قوله : { إِنِّي سَقِيمٌ } ، وقوله { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } [ الأنبياء : 62 ] ، وقوله في سارة : هي أختي " {[25012]} فهو حديث مخرج في الصحاح{[25013]} والسنن من طرق{[25014]} ، ولكن ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله ، حاشا وكلا وإنما أطلق الكذب على هذا تجوزا ، وإنما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني ، كما جاء في الحديث : " إن [ في ]{[25015]} المعاريض لمندوحة عن الكذب " {[25016]}
وقال{[25017]} ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن علي بن زيد بن جدعان ، عن أبي نَضْرَة{[25018]} ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلمات إبراهيم الثلاث التي قال : " ما منها كلمة إلا ما حمل بها عن دين الله تعالى ، فقال : { إِنِّي سَقِيمٌ } ، وقال { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ } ، وقال للملك حين أراد المرأة : هي أختي " {[25019]} .
قال سفيان في قوله : { إِنِّي سَقِيمٌ } يعني : طعين . وكانوا يفرون من المطعون ، فأراد أن يخلو بآلهتهم . وكذا قال العوفي عن ابن عباس : { فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ . فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ } ، فقالوا له وهو في بيت آلهتهم : اخرج . فقال : إني مطعون ، فتركوه مخافة الطاعون .
وقال قتادة عن سعيد بن المسيب : رأى نجما طلع فقال : { إِنِّي سَقِيمٌ } كابد نبي الله عن دينه{[25020]} { فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ } .
وقال آخرون : فقال{[25021]} : { إِنِّي سَقِيمٌ } بالنسبة إلى ما يستقبل ، يعني : مرض الموت .
وقيل : أراد { إِنِّي سَقِيمٌ } أي : مريض القلب من عبادتكم الأوثان من دون الله عز وجل .
وقال الحسن البصري : خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم ، فأرادوه على الخروج ، فاضطجع على ظهره وقال : { إِنِّي سَقِيمٌ } ، وجعل ينظر في السماء فلما خرجوا أقبل إلى آلهتهم فكسرها . رواه ابن أبي حاتم . ولهذا قال تعالى : { فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ }
والمعنى : ففكر في حيلة يخلو له بها بدّ أصنامهم فقال : { إني سقيمٌ } ليلزم مكانه ويفارقوه فلا يريهم بقاؤه حول بدّهم ثم يتمكن من إبطال معبوداتهم بالفعل . والوجه : أن التعقيب الذي أفادته الفاء من قوله : { فنظَرَ } تعقيب عرفي ، أي لكل شيء نحسبه فيفيد كلاماً مطوياً يشير إلى قصة إبراهيم التي قال فيها : { إني سقيم } والتي تفرع عليها قوله تعالى : { فراغ إلى أهله } [ الذاريات : 26 ] الخ .
وتقييد النظرة بصيغة المرة في قوله : { نظرةً } إيماء إلى أن الله ألهمه المكيدة وأرشده إلى الحجة كما قال تعالى : { ولقد آتينا إبراهيم رشده } [ الأنبياء : 51 ] .
وقوله : { إني سقيمٌ } عذر انتحله ليتركوه فيخلو ببيت الأصنام ليخلص إليها عن كثب فلا يجد من يدفعه عن الإيقاع بها . وليس في القرآن ولا في السنة بيان لهذا لأنه غني عن البيان . وذكر المفسرون أنه اعتذر عن خروجه مع قومه من المدينة في يوم عيد يخرجون فيه فزعم أنه مريض لا يستطيع الخروج فافترض إبراهيم خروجهم ليخلو ببدّ الأصنام وهو الملائم لقوله : { فتولوا عنه مُدبرينَ } .
والسقيم : صفة مشبهة وهو المريض كما تقدم في قوله : { بقلبٍ سليمٍ } [ الصافات : 84 ] . يقال : سَقِم بوزن مرِض ، ومصدره السَّقم بالتحريك ، فيقال : سقام وسقم بوزن قُفْل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.