{ 8 - 10 } { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ } أي : أفلم يتفكر هؤلاء المكذبون لرسل اللّه ولقائه { فِي أَنْفُسِهِمْ } فإن في أنفسهم آيات يعرفون{[7]} بها أن الذي أوجدهم من العدم سيعيدهم بعد ذلك وأن الذي نقلهم أطوارا من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى آدمي قد نفخ فيه الروح إلى طفل إلى شاب إلى شيخ إلى هرم ، غير لائق أن يتركهم سدى مهملين لا ينهون ولا يؤمرون ولا يثابون ولا يعاقبون . { مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ } [ أي ] ليبلوكم أيكم أحسن عملا . { وَأَجَلٌ مُسَمًّى } أي : مؤقت بقاؤهما إلى أجل تنقضي به الدنيا وتجيء به القيامة وتبدل الأرض غير الأرض والسماوات .
{ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ } فلذلك لم يستعدوا للقائه ولم يصدقوا رسله التي أخبرت به وهذا الكفر عن غير دليل ، بل الأدلة القاطعة قد دلت على البعث والجزاء .
ولارتباط تحقق وعد الله بالنصر بالحق الأكبر الذي يقوم عليه هذا الوجود ، وارتباط أمر الآخرة كذلك بهذا الحق استطرد يجول بهم جولة أخرى في ضمير هذا الكون . في السماوات والأرض وما بينهما ؛ ويردهم إلى أنفسهم ينظرون في أعماقها ويتدبرون ، علهم يدركون ذلك الحق الكبير ، الذي يغفلون عنه حين يغفلون عن الآخرة ؛ ويغفلون عن الدعوة التي تقودهم إلى رؤية ذلك الحق وتدبره :
أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى . و إن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون .
فطبيعة تكوينهم هم أنفسهم ، وطبيعة هذا الكون كله من حولهم توحي بأن هذا الوجود قائم على الحق ، ثابت على الناموس ، لا يضطرب ، ولا تتفرق به السبل ، ولا تتخلف دورته ، ولا يصطدم بعضه ببعض ، ولا يسير وفق المصادفة العمياء ، ولا وفق الهوى المتقلب ، إنما يمضي في نظامه الدقيق المحكم المقدر تقديرا . وأن من مقتضيات هذا الحق الذي يقوم عليه الوجود أن تكون هناك آخرة ، يتم فيها الجزاء على العمل ، ويلقى الخير والشر عاقبتهما كاملة . إنما كل شيء إلى أجله المرسوم . وفق الحكمة المدبرة ؛ وكل أمر يجيء في موعده لا يستقدم لحظة ولا يستأخر . وإذا لم يعلم البشر متى تكون الساعة ، فإن هذا ليس معناه أنها لا تكون ! ولكن تأجيلها يغري الذين لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا ويخدعهم : ( وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون ) . .
يقول تعالى منبهًا على التفكر في مخلوقاته ، الدالة على وجوده وانفراده بخلقها ، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه ، فقال : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ } يعني به : النظر والتدبر والتأمل لخلق الله الأشياء من العالم العلوي والسفلي ، وما بينهما من المخلوقات المتنوعة ، والأجناس المختلفة ، فيعلموا أنها ما خلقت سُدًى ولا باطلا بل بالحق ، وأنها مؤجلة{[22779]} إلى أجل مسمى ، وهو يوم القيامة ؛ ولهذا قال : { وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ } .
ثم أخبر عقب هذا المعنى بأن الحق هو السبب في خلق السماوات والأرض . فيفهم على طريقة الإيجاز والاختصار أن من فكر في نفسه علم حقيقة هذا الخبر ووقف عليه ببصيرة نفسه ، والمعنى الثاني أن تكون النفس ظرفاً للفكرة في خلق السماوات والأرض فيكون قوله { في أنفسهم } تأكيداً لقوله { يتفكروا } كما تقول انظر بعينك واسمع بأذنك ، فقولك بأذنك تأكيد ، وقوله { إلا بالحق } أي بسبب المنافع التي هي حق واجب يريد من الدلالة عليه والعبادة له دون فتور ، والانتصاب للعبرة ومنافع الأرزاق وغير ذلك{[9282]} ، { وأجل } عطف على «الحق » أي وبأجلٍ مسمى وهو يوم القيامة ، ففي الآية إشارة إلى البعث والنشور وفساد بنية من في هذا العالم ، ثم أخبر عن كثير من الناس أنهم كفرة بذلك المعنى فعبر عنه { بلقاء } الله لأن لقاء الله هو عظم الأمر وفيه النجاة أو الهلكة .
عطف على جملة { وهُمْ عن الآخرةِ هم غَافِلون } [ الروم : 7 ] لأنهم نفوا الحياة الآخرة فسيق إليهم هذا الدليل على أنها من مقتضى الحكمة .
فضمير { يتفكروا } عائد إلى الغافلين عن الآخرة وفي مقدمتهم مشركو مكة . والاستفهام تعجيبي من غفلتهم وعدم تفكرهم . والتقدير : هم غافلون وعجيب عدم تفكرهم . ومناسبة هذا الانتقال أن لإحالتهم رجوع الدَّالة إلى الروم بعد انكسارهم سببين :
أحدهما : اعتيادهم قصر أفكارهم على الجولان في المألوفات دون دائرة الممكنات ، وذلك من أسباب إنكارهم البعث وهو أعظم ما أنكروه لهذا السبب .
وثانيهما : تمردهم على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن شاهدوا معجزته فانتقل الكلام إلى نقض آرائهم في هذين السببين .
والتفكر : إعمال الفكر ، أي الخاطر العقلي للاستفادة منه ، وهو التأمل في الدلالة العقلية . وقد تقدم عند قوله تعالى { قُلْ هَلْ يَسْتوي الأعْمَى والبَصِير أفَلا تَتَفَكرون } في سورة الأنعام ( 50 ) .
والأنفس : جمع نفْس . والنفس يطلق على الذات كلها ، ويطلق على باطن الإنسان ، ومنه قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام : { تعْلَم مَا فِي نَفْسِي } [ المائدة : 116 ] كقول عمر يوم السقيفة : « وكُنت زوّقت في نفسي مقالة » أي في عقلي وباطني .
وحرف { في } من قوله { فِي أنْفُسهم } يجوز أن يكون للظرفية الحقيقية الاعتبارية فيكون ظرفاً لمصدر { يَتَفَكَرُّوا ، أي تفكراً مستقراً في أنفسهم . وموقع هذا الظرف مما قبله موقع معنى الصفة للتفكر . وإذ قد كان التفكر إنما يكون في النفس فذكر في أنفسهم لتقوية تصوير التفكر وهو كالصفة الكاشفة لتقرر معنى التفكر عند السامع ، كقوله { ولاَ تخطّهُ بِيَمِينك } [ العنكبوت : 48 ] وقوله { ولاَ طَائِر يَطِير بِجَنَاحَيه } [ الأنعام : 38 ] ، وتكون جملة { مَا خَلَقَ الله السَّمَاوات والأرْض } الخ على هذا مُبينة لجملة { يَتَفَكَرُّوا } إذ مدلولها هو ما يتفكرون فيه كقوله تعالى : { أمْ يَتَفَكَّروا ما بِصَاحبهم من جنة } [ الأعراف : 184 ] .
ويجوز أن يكون { في } للظرفية المجازية متعلقة بفعل { يَتَفكروا } تعلق المفعول بالفعل ، أي يتدبروا ويتأملوا في أنفسهم . والمراد بالأنفس الذوات فهو في معنى قوله تعالى { وفي أنْفُسكم أفَلا تُبْصِرون } [ الذاريات : 21 ] ؛ فإن حق النظر المؤدّي إلى معرفة الوحدانية وتحقق البعث أن يبدأ بالنظر في أحوال خلقة الإنسان قال تعالى : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا تُرجعون } [ المؤمنون : 115 ] وهذا كقوله تعالى : { أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض } [ الأعراف : 185 ] أي في دلالة ملكوت السماوات والأرض ، وتكون جملة { مَا خَلَق الله السماوَات والأرْض } الخ على هذا التفسير بدل اشتمال من قوله { أنْفُسهم } إذ الكلام على حذف مضاف ، تقديره : في دلالة أنفسهم ، فإن دلالة { أنفُسهم } تشتمل على دلالة خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق لأن { أنفُسهم } مشمولة لما في الأرض من الخلق ودالة على ما في الأرض ، وكذلك يطلق ما في الأرض دال على خلق أنفسهم .
وعلى الاحتمالين وقع تعليق فعل { يَتَفَكَّروا } عن العمل في مفعولين لوجود النفي بعده .
ومعنى { خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق : أن خلقهم ملابسٌ للحق .
والحق هنا هو ما يحق أن يكون حِكمة لِخلق السماوات والأرض وعلة له ، وحق كل ماهية ونوع هو ما يحق أن يتصرف به من الكمال في خصائصه وأنه به حقيق كما يقول الأب لابنه القائم ببره : أنت ابني حقاً ، ألا ترى أنهم جعلوا تعريف النكرة بلام الجنس دالاً على معنى الكمال في نحو : أنت الحبيب ، لأن اسم الجنس في المقام الخطابي يؤذن بكماله في صفاته ، وإنما يعرف حق كل نوع بالصفات التي بها قابليته ، ومن ينظر في القابليات التي أودعها الله تعالى في أنواع المخلوقات يجد كل الأنواع مخلوقة على حدود خاصة بها إذا هي بلغتها لا تقبل أكثر منها ؛ فالفرس والبقرة والكلب الكائنات في العصور الخالية وإلى زمن آدم لا تتجاوز المتأخرة من أمثالها حدودها التي كانت عليها فهي في ذلك سواءٌ . دلت على ذلك تجارب الناس الحاضرين لأجيالها الحاضرة ، وأخبارُ الناس الماضين عن الأجيال المعاصرة لها ، وقياسُ ما كان قبل أزمان التاريخ على الأجيال التي انقرضت قبلها حاشا نوع الإنسان فإن الله فَطَره بقابلية للزيادة في كمالات غير محدودة على حسب أحواللِ تجدُّدِ الأجيال في الكمال والارتقاء وجعله السلطان على هذا العالم والمتصرف في أنواع مخلوقات عالَمِه كما قال { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } [ البقرة : 29 ] وذلك بما أودع فيه من العقل . ودلت المشاهدة على تفاوت أفراد نوع الإنسان في كمال ما يصلح له تفاوتاً مترامي الأطراف ، كما قال البحتري :
ولم أر أمثال الرجال تفاوتاً *** لدى الفضل حتى عُدّ ألف بواحد
فدلت التجربة في المشاهدة كما دلت الأخبار عن الماضي وقياس ما قبل التاريخ على ما بعده ، كل ذلك دل على هذا المعنى ، ولأجل هذا التفاوت كلف الإنسان خالقُه بقوانين ليبلغ مرتقى الكمال القابل له في زمانه ، مع مراعاة ما يحيط به من أحوال زمانه ، وليتجنب إفساد نفسه وإفساد بني نوعه ، وقد كان ما أعطيه نوع الإنسان من شُعب العقل مخوِّلاً إياه أن يفعل على حسب إرادته وشهوته ، وأن يتوخّى الصواب أو أن لا يتوخّاه ، فلما كلفه خالقهُ باتباع قوانين شرائعه ارتكب واجتنب فالتحق تارة بمراقي كماله ، وقصَّر تارة عنها قصوراً متفاوتاً ، فكان من الحكمة أن لا يُهمَل مسترسلاً في خطوات القصور والفساد ، وذلك إما بتسليط قوة مُلْجِئَة عليه تستأصل المفسد وتستبقي المصلح ، وإما بإراضته على فعل الصلاح حتى يصير منساقاً إلى الصلاح باختياره المحمود ، إلا أن حكمة أخرى ربانية اقتضت بقاء عمران العالم وعدمَ استئصاله ، وبذلك تعطل استعمال القوة المستأصلة ، فتعين استعمال إراضته على الصلاح ، فجمع الله بين الحكمتين بأن جعل ثواباً للصالحين على قدر صلاحهم وعقاباً للمفسدين بمقدار عملهم ، واقعاً ذلك كلُّه في عالم غير هذا العالم ، وأبلغ ذلك إليهم على ألسنة رسله وأنبيائه إزالة للوصمة ، وتنبيهاً على الحكمة ، فخاف فريق ورجا فارتكب واجتنب ، وأعرض فريق ونأى فاجترح واكتسب ، وكانَ من حق آثار هاته الحِكم أن لا يُحرم الصالح من ثوابه ، وأن لا يفوتَ المفسد بمَا به ليظهر حق أهل الكمال ومَن دونهم من المراتب ، فجعل الله بقاء أفراد النوع في هذا العالم محدوداً بآجال معينة وجعل لبقاء هذا العالم كله أجلاً معيناً ، حتى إذا انتهت جميع الآجال جاء يوم الجزاء على الأعمال ، وتميز أهل النقص من أهل الكمال .
فكان جَعْل الآجال لبقاء المخلوقات من جملة الحق الذي خُلقت ملابِسةً له ، ولذلك نُبّه عليه بخصوصه اهتماماً بشأنه ، وتنبيهاً على مكانه ، وإظهاراً أنه المقصدُ بكيانه ، فعطفه على الحق للاهتمام به ، كما عطف ضده على الباطل ، في قوله { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون } [ المؤمنون : 115 ] فقال { أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى } .
وقد مضى في سورة الأنعام ( 73 ) قوله { وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق } الآية . وفائدة ذكر السماوات هنا أنّ في أحوال السماوات من شمسها وكواكبها وملائكتها ما هو من جملة الحق الذي خلقت ملابسة له ، أما ما وراء ذلك من أحوالها التي لا نَعرف نسبة تعلقها بهذا العالم ، فنَكِلُ أمره إلى الله ونقيسُ غائبه على الشاهد ، فنُوقنُ بأنه ما خُلق إلا بالحق كذلك . فشواهد حقيَّة البعث والجزاء بادية في دقائق خلق المخلوقات ، ولذلك أعقبه بقوله وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون } ، وهذا كقوله تعالى { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا تُرجعون } [ المؤمنون : 115 ] .
والمسمَّى : المقدَّر . أطلقت التسمية على التقدير ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { ونُقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمّى } في سورة الحج ( 5 ) . وعند قوله تعالى { ولولا أجل مسمّى لجاءهم العذاب } في سورة العنكبوت ( 53 ) . وجملة وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون } تذييل .
وتأكيده ب { إن } لتنزيل السامع منزلة من يشك في وجود من يجحد لقاء الله بعد هذا الدليل الذي مضى بَلْهَ أن يكون الكافرون به كثيراً . والمراد بالكثير هنا : مشركو أهل مكة وبقية مشركي العرب المنكرين للبعث ومن ماثلهم من الدهريين . ولم يعبر هنا ب { أكثر الناس } [ العنكبوت : 60 ] لأن المثبتين للبعث كثيرون مثل أهل الكتاب والصابئة والمجوس والقبط .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
لم يخلقهما عبثا لغير شيء، خلقهما لأمر هو كائن، {وأجل مسمى} يقول: السماوات والأرض لهما أجل ينتهيان إليه، يعني يوم القيامة {وإن كثيرا من الناس} يعني عز وجل كفار مكة، {بلقاء ربهم} بالبعث بعد الموت {لكافرون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أو لم يتفكّر هؤلاء المكذّبون بالبعث يا محمد من قومك في خلق الله إياهم، وأنه خلقهم ولم يكونوا شيئا، ثم صرفهم أحوالاً وتارات حتى صاروا رجالاً، فيعلموا أن الذي فعل ذلك قادر أن يعيدهم بعد فنائهم خلقا جديدا، ثم يجازي المحسن منهم بإحسانه، والمسيء بإساءته، لا يظلم أحدا منهم فيعاقبه بجرم غيره، ولا يحرم أحدا منهم جزاء عمله، لأنه العدل الذي لا يجور ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلاّ بالعدل، وإقامة الحقّ، "وأجل مسمى "يقول: وبأجل مؤقت مسمى، إذا بلغت ذلك الوقت أفنى ذلك كله، وبدّل الأرض غير الأرض والسموات، وبرزوا لله الواحد القهّار، وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم جاحدون منكرون، جهلاً منهم بأن معادهم إلى الله بعد فنائهم، وغفلة منهم عن الاَخرة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قد ذكرنا في غير موضع أن كل استفهام من الله وسؤال يخرج على الإيجاب والإلزام. ثم الإيجاب يخرج على وجوه:
أحدها: أن قد تفكروا، واعتبروا، ونظروا، وعرفوا أنه {ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} لكنهم عاندوا، وكابروا، ولم ينقادوا للحق، ولم يقروا.
والثاني: يخرج على الأمر، أي تفكروا، وانظروا، واعتبروا، لتعلموا أنه {ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق}.
والثالث: على الخبر أنهم لم يتفكروا، ولم ينظروا، ولم يعتبروا. ولو تكفروا، واعتبروا لعلموا {ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} لكنهم لم يتفكروا، ولم ينظروا بعد ما أعطوا أسباب العلم به. فلم يعذروا بترك التفكر والنظر والاعتبار.
{إلا بالحق} قيل فيه بوجوه: أحدها: أن {ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} الذي عليهم من الشكر في ما أنعم عليهم والتعظيم له والتبجيل.
والثاني: {إلا بالحق} الذي لله عليهم من الشكر له في ما أنعم عليهم، أي ما يحمد بفعله عاقبة ما لولا تلك العاقبة لكان لا يحمد، إذ في الحكمة التفريق بين الولي والعدو، وقد أشركهم جميعا في هذه الدنيا. ولو لم يجعل دارا أخرى يفرق فيها بينهما لكان لا يحمد في ما أشركهم فيها.
والثالث: {إلا بالحق} أي بالبعث لأنه لو لم يكن البعث لكان خلقه السماوات والأرض وما بينهما لعبا باطلا لا حقا كقوله: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115]. وقوله تعالى: {وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون}، سمي البعث لقاء الرب والمصير إليه والرجوع إليه والبروز إليه والخروج، وإن كانوا في الأوقات كلها بارزين له خارجين صائرين إليه راجعين، لأن خلقه إياهم إنما صار حكمة لذلك البعث، والمقصود بخلقهم ذلك البعث. لذلك سمي البعث بما ذكرنا...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فِي أَنفُسِهِمْ} يحتمل أن يكون ظرفاً، كأنه قيل: أولم يحدثوا التفكر في أنفسهم، أي: في قلوبهم الفارغة من الفكر، والتفكر لا يكون إلا في القلوب، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين، كقولك: اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك، وأن يكون صلة للتفكر، كقولك: تفكر في الأمر وأجال فيه فكره.
و {مَّا خَلَقَ} متعلق بالقول المحذوف، معناه: أولم يتفكروا فيقولوا هذا القول. وقيل: معناه: فيعلموا، لأنّ في الكلام دليلاً عليه.
والباء في قوله: {إِلاَّ بالحق} مثلها في قولك: دخلت عليه بثياب السفر، واشترى الفرس بسرجه ولجامه، تريد: اشتراه وهو ملتبس بالسرج واللجام، غير منفك عنهما. وكذلك المعنى ما خلقها إلا وهي ملتبسة بالحق مقترنة به.
فإن قلت: إذا جعلت {في أَنفُسِهِمْ} صلة للتفكر، فما معناه؟ قلت: معناه: أولم يتفكروا في أنفسهم التي هي أقرب إليهم من غيرها من المخلوقات، وهم أعلم وأخبر بأحوالها منهم بأحوال ما عداها، فتدبروا ما أودعها الله ظاهراً وباطناً من غرائب الحكم الدالة على التدبير دون الإهمال وأنه لا بد لها من انتهاء إلى وقت يجازيها فيه الحكيم الذي دبر أمرها على الإحسان إحساناً وعلى الإساءة مثلها، حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك أمرها جار على الحكمة والتدبير وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى ذلك الوقت.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم أخبر عقب هذا المعنى بأن الحق هو السبب في خلق السماوات والأرض. فيفهم على طريقة الإيجاز والاختصار أن من فكر في نفسه علم حقيقة هذا الخبر ووقف عليه ببصيرة نفسه.
والمعنى الثاني أن تكون النفس ظرفاً للفكرة في خلق السماوات والأرض فيكون قوله {في أنفسهم} تأكيداً لقوله {يتفكروا} كما تقول انظر بعينك واسمع بأذنك، فقولك بأذنك تأكيد.
وقوله {إلا بالحق} أي بسبب المنافع التي هي حق واجب يريد من الدلالة عليه والعبادة له دون فتور، والانتصاب للعبرة ومنافع الأرزاق وغير ذلك.
قدم ههنا دلائل الأنفس على دلائل الآفاق... وجه دلالة الخلق بالحق على الوحدانية ظاهر، وأما وجه دلالته على الحشر فكيف هو؟ فنقول وقوع تخريب السماوات وعدمها لا يعلم بالعقل إلا إمكانه، وأما وقوعه فلا يعلم إلا بالسمع، لأن الله قادر على إبقاء الحادث أبدا كما أنه يبقي الجنة والنار بعد إحداثهما أبدا، والخلق دليل إمكان العدم، لأن المخلوق لم يجب له القدم فجاز عليه العدم...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} يعني به: النظر والتدبر والتأمل لخلق الله الأشياء من العالم العلوي والسفلي، وما بينهما من المخلوقات المتنوعة، والأجناس المختلفة، فيعلموا أنها ما خلقت سُدًى ولا باطلا بل بالحق.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{بالحق} أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع، فإذا ذكر البعث الذي هو مبدأه الآخرة التي هذا أسلوبها وجد الواقع في تصوير النطف ونفخ الروح وتمييز الصالح منها للتصوير من الفاسد يطابق ذلك، وإذا تدبر النبات بعد أن كان هشيماً قد نزل عليه الماء فزها واهتز وربا وجده مطابقاً لأمر البعث، وإذا ذكر القدرة فرأى اختلاف الليل والنهار، وسير الكواكب الصغار والكبار، وإمطار الأمطار، وإجراء الأنهار، ونحو ذلك من الأسرار، رآه مطابقاً لكل ما يخطر في باله من الأقدار.
ولما كان عندهم أن هذا الوجود حياة وموت لا إلى نفاد، قال: {وأجل} لا بد أن ينتهي إليه {مسمى} أي في العلم من الأزل، وذلك الأجل هو وقت قيام الساعة، وذلك أنه كما جعل لهم آجالاً لأصلهم وفرعهم لم يشذ عنها أحد منهم فكذلك لا بد من أجل مسمى لما خلقوا منه، فإذا جاء ذلك الأجل انحل هذا النظام، واختل هذا الإحكام، وزالت هذه الأحكام، فتساقطت هذه الأجرام، وصارت إلى ما كانت عليه من الإعدام، وإلا كان الخلق عبثاً يتعالى عنه الملك العلام.
ولما كانوا ينكرون أنهم على كفر، أكد قوله: {وإن كثيراً من الناس} مع ذلك على وضوحه {بلقاء ربهم} الذي ملأهم إحساناً برجوعهم في الآخرة إلى العرض عليه للثواب والعقاب {لكافرون} أي لساترون ما في عقولهم من دلائل وحدانيته وحجج قدرته وحكمته ستراً عظيماً، كأنه غريزة لهم، فهم لذلك يكذبون بما وعدكم سبحانه من إدالة الروم على فارس، فلا يهولنكم ذلك لأنهم قد كذبوا بما هو أكبر منه، وهو الآخرة على ما لها من الدلائل التي تفوت الحصر.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ} إنكارٌ واستقباحٌ لِقصَرِ نظرِهم على ما ذُكر من ظاهرِ الحياةِ الدُّنيا مع الغفلةِ عن الآخرةِ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولارتباط تحقق وعد الله بالنصر بالحق الأكبر الذي يقوم عليه هذا الوجود، وارتباط أمر الآخرة كذلك بهذا الحق استطرد يجول بهم جولة أخرى في ضمير هذا الكون. في السماوات والأرض وما بينهما؛ ويردهم إلى أنفسهم ينظرون في أعماقها ويتدبرون، علهم يدركون ذلك الحق الكبير، الذي يغفلون عنه حين يغفلون عن الآخرة؛ ويغفلون عن الدعوة التي تقودهم إلى رؤية ذلك الحق وتدبره.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {وهُمْ عن الآخرةِ هم غَافِلون} [الروم: 7] لأنهم نفوا الحياة الآخرة فسيق إليهم هذا الدليل على أنها من مقتضى الحكمة.
فضمير {يتفكروا} عائد إلى الغافلين عن الآخرة وفي مقدمتهم مشركوا مكة. والاستفهام تعجبي من غفلتهم وعدم تفكرهم. والتقدير: هم غافلون وعجيب عدم تفكرهم.
ومناسبة هذا الانتقال أن لإحالتهم رجوع الدَّالة إلى الروم بعد انكسارهم سببين: أحدهما: اعتيادهم قصر أفكارهم على الجولان في المألوفات دون دائرة الممكنات، وذلك من أسباب إنكارهم البعث وهو أعظم ما أنكروه لهذا السبب. وثانيهما: تمردهم على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن شاهدوا معجزته فانتقل الكلام إلى نقض آرائهم في هذين السببين.
والتفكر: إعمال الفكر، أي الخاطر العقلي للاستفادة منه، وهو التأمل في الدلالة العقلية. وقد تقدم عند قوله تعالى {قُلْ هَلْ يَسْتوي الأعْمَى والبَصِير أفَلا تَتَفَكرون} في سورة الأنعام (50).
والأنفس: جمع نفْس. والنفس يطلق على الذات كلها، ويطلق على باطن الإنسان، ومنه قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: {تعْلَم مَا فِي نَفْسِي} [المائدة: 116] كقول عمر يوم السقيفة: « وكُنت زوّقت في نفسي مقالة» أي في عقلي وباطني. وحرف {في} من قوله {فِي أنْفُسهم} يجوز أن يكون للظرفية الحقيقية الاعتبارية فيكون ظرفاً لمصدر {يَتَفَكَرُّوا، أي تفكراً مستقراً في أنفسهم. وموقع هذا الظرف مما قبله موقع معنى الصفة للتفكر. وإذ قد كان التفكر إنما يكون في النفس فذكر في أنفسهم لتقوية تصوير التفكر وهو كالصفة الكاشفة لتقرر معنى التفكر عند السامع، كقوله {ولاَ تخطّهُ بِيَمِينك} [العنكبوت: 48] وقوله {ولاَ طَائِر يَطِير بِجَنَاحَيه} [الأنعام: 38]، وتكون جملة {مَا خَلَقَ الله السَّمَاوات والأرْض} الخ على هذا مُبينة لجملة {يَتَفَكَرُّوا} إذ مدلولها هو ما يتفكرون فيه كقوله تعالى: {أمْ يَتَفَكَّروا ما بِصَاحبهم من جنة} [الأعراف: 184].
ويجوز أن يكون {في} للظرفية المجازية متعلقة بفعل {يَتَفكروا} تعلق المفعول بالفعل، أي يتدبروا ويتأملوا في أنفسهم. والمراد بالأنفس الذوات فهو في معنى قوله تعالى {وفي أنْفُسكم أفَلا تُبْصِرون} [الذاريات: 21]؛ فإن حق النظر المؤدّي إلى معرفة الوحدانية وتحقق البعث أن يبدأ بالنظر في أحوال خلقة الإنسان قال تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا تُرجعون} [المؤمنون: 115] وهذا كقوله تعالى: {أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض} [الأعراف: 185] أي في دلالة ملكوت السماوات والأرض، وتكون جملة {مَا خَلَق الله السماوَات والأرْض} الخ على هذا التفسير بدل اشتمال من قوله {أنْفُسهم} إذ الكلام على حذف مضاف، تقديره: في دلالة أنفسهم، فإن دلالة {أنفُسهم} تشتمل على دلالة خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق لأن {أنفُسهم} مشمولة لما في الأرض من الخلق ودالة على ما في الأرض، وكذلك يطلق ما في الأرض دال على خلق أنفسهم. وعلى الاحتمالين وقع تعليق فعل {يَتَفَكَّروا} عن العمل في مفعولين لوجود النفي بعده.
ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق، والحق هنا هو ما يحق أن يكون حِكمة لِخلق السماوات والأرض وعلة له، وحق كل ماهية ونوع هو ما يحق أن يتصرف به من الكمال في خصائصه وأنه به حقيق كما يقول الأب لابنه القائم ببره: أنت ابني حقاً، ألا ترى أنهم جعلوا تعريف النكرة بلام الجنس دالاً على معنى الكمال في نحو: أنت الحبيب، لأن اسم الجنس في المقام الخطابي يؤذن بكماله في صفاته، وإنما يعرف حق كل نوع بالصفات التي بها قابليته، ومن ينظر في القابليات التي أودعها الله تعالى في أنواع المخلوقات يجد كل الأنواع مخلوقة على حدود خاصة بها إذا هي بلغتها لا تقبل أكثر منها؛ فالفرس والبقرة والكلب الكائنات في العصور الخالية وإلى زمن آدم لا تتجاوز المتأخرة من أمثالها حدودها التي كانت عليها فهي في ذلك سواءٌ. دلت على ذلك تجارب الناس الحاضرين لأجيالها الحاضرة، وأخبارُ الناس الماضين عن الأجيال المعاصرة لها، وقياسُ ما كان قبل أزمان التاريخ على الأجيال التي انقرضت قبلها حاشا نوع الإنسان فإن الله فَطَره بقابلية للزيادة في كمالات غير محدودة على حسب أحوالِ تجدُّدِ الأجيال في الكمال والارتقاء وجعله السلطان على هذا العالم والمتصرف في أنواع مخلوقات عالَمِه كما قال {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة: 29] وذلك بما أودع فيه من العقل.
ودلت المشاهدة على تفاوت أفراد نوع الإنسان في كمال ما يصلح له تفاوتاً مترامي الأطراف، كما قال البحتري: ولم أر أمثال الرجال تفاوتاً *** لدى الفضل حتى عُدّ ألف بواحد
فدلت التجربة في المشاهدة كما دلت الأخبار عن الماضي وقياس ما قبل التاريخ على ما بعده، كل ذلك دل على هذا المعنى، ولأجل هذا التفاوت كلف الإنسان خالقُه بقوانين ليبلغ مرتقى الكمال القابل له في زمانه، مع مراعاة ما يحيط به من أحوال زمانه، وليتجنب إفساد نفسه وإفساد بني نوعه، وقد كان ما أعطيه نوع الإنسان من شُعب العقل مخوِّلاً إياه أن يفعل على حسب إرادته وشهوته، وأن يتوخّى الصواب أو أن لا يتوخّاه، فلما كلفه خالقهُ باتباع قوانين شرائعه ارتكب واجتنب فالتحق تارة بمراقي كماله، وقصَّر تارة عنها قصوراً متفاوتاً، فكان من الحكمة أن لا يُهمَل مسترسلاً في خطوات القصور والفساد، وذلك إما بتسليط قوة مُلْجِئَة عليه تستأصل المفسد وتستبقي المصلح، وإما بإراضته على فعل الصلاح حتى يصير منساقاً إلى الصلاح باختياره المحمود، إلا أن حكمة أخرى ربانية اقتضت بقاء عمران العالم وعدمَ استئصاله، وبذلك تعطل استعمال القوة المستأصلة، فتعين استعمال إراضته على الصلاح، فجمع الله بين الحكمتين بأن جعل ثواباً للصالحين على قدر صلاحهم وعقاباً للمفسدين بمقدار عملهم، واقعاً ذلك كلُّه في عالم غير هذا العالم، وأبلغ ذلك إليهم على ألسنة رسله وأنبيائه إزالة للوصمة، وتنبيهاً على الحكمة، فخاف فريق ورجا فارتكب واجتنب، وأعرض فريق ونأى فاجترح واكتسب، وكانَ من حق آثار هاته الحِكم أن لا يُحرم الصالح من ثوابه، وأن لا يفوتَ المفسد بمَا به ليظهر حق أهل الكمال ومَن دونهم من المراتب، فجعل الله بقاء أفراد النوع في هذا العالم محدوداً بآجال معينة وجعل لبقاء هذا العالم كله أجلاً معيناً، حتى إذا انتهت جميع الآجال جاء يوم الجزاء على الأعمال، وتميز أهل النقص من أهل الكمال.
فكان جَعْل الآجال لبقاء المخلوقات من جملة الحق الذي خُلقت ملابِسةً له، ولذلك نُبّه عليه بخصوصه اهتماماً بشأنه، وتنبيهاً على مكانه، وإظهاراً أنه المقصدُ بكيانه، فعطفه على الحق للاهتمام به، كما عطف ضده على الباطل، في قوله {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115] فقال {أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى}. وقد مضى في سورة الأنعام (73) قوله {وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق} الآية.
وفائدة ذكر السماوات هنا أنّ في أحوال السماوات من شمسها وكواكبها وملائكتها ما هو من جملة الحق الذي خلقت ملابسة له، أما ما وراء ذلك من أحوالها التي لا نَعرف نسبة تعلقها بهذا العالم، فنَكِلُ أمره إلى الله ونقيسُ غائبه على الشاهد، فنُوقنُ بأنه ما خُلق إلا بالحق كذلك. فشواهد حقيَّة البعث والجزاء بادية في دقائق خلق المخلوقات، ولذلك أعقبه بقوله وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون}، وهذا كقوله تعالى {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا تُرجعون} [المؤمنون: 115]. والمسمَّى: المقدَّر. أطلقت التسمية على التقدير، وقد تقدم عند قوله تعالى: {ونُقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمّى} في سورة الحج (5). وعند قوله تعالى {ولولا أجل مسمّى لجاءهم العذاب} في سورة العنكبوت (53).
وجملة وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون} وتأكيده ب {إن} لتنزيل السامع منزلة من يشك في وجود من يجحد لقاء الله بعد هذا الدليل الذي مضى بَلْهَ أن يكون الكافرون به كثيراً.
والمراد بالكثير هنا: مشركو أهل مكة وبقية مشركي العرب المنكرين للبعث ومن ماثلهم من الدهريين. ولم يعبر هنا ب {أكثر الناس} [العنكبوت: 60] لأن المثبتين للبعث كثيرون مثل أهل الكتاب والصابئة والمجوس والقبط...
أن يكون ذلك منهم: لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، ويغفلون عن الآخرة، ولم يتفكروا في أنفسهم، فيأتي لهم بالدليل مرة في أنفسهم، ومرة في السموات والأرض. الدليل في الأنفس يقول لك: فكر في نفسك. أي: اجعلها موضوع تفكيرك، وتأمل ما فيها من أسرار دالة على قدرة الخالق عز وجل، فإلى الآن ومع ما توصل إليه العلم ما زال في الإنسان أسرار لم تكتشف بعد.
تأمل في مقومات حياتك: الأكل والشرب والتنفس، وكيف أنك تصبر على الطعام حتى شهر، تتغذى من المخزون في جسمك، وتصبر على الماء من ثلاثة إلى عشرة أيام على مقدار ما في جسمك من مائية، لكنك لا تصبر على الهواء إلا بمقدار شهيق وزفير. لذلك من حكمته تعالى حين أمن للبشر هذه المقومات أن جعل مدة صبرك على الطعام أطول، لأن طعامك قد يحتكره غيرك، فتحتاج إلى طلبه والسعي إليه، أما الماء فمدة الصبر عليه أقل، لذلك جعل الحق سبحانه احتكار الماء قليلا. أما الهواء الذي لا تصبر عليه بمقدار شهيق وزفير، فمن حكمة الله تعالى ألا يملك لأحد أبدا، وإلا لو احتكر الناس الهواء لما استقامت الحياة، فلو منعك صاحب الهواء هواءه لمت قبل أن يرضى عنك.
فدعانا ربنا إلى البحث في أنفسنا قبل البحث فيما حولنا من آيات السماء والأرض؛ لأن أنظارنا قد تقصر عن رؤية ما في السموات والأرض من آيات، أما نفسي فهي أقرب دليل منك وأقوى دليل عليك.
{أو لم يتفكروا في أنفسهم..أي: فكروا في أنفسكم بعيدا عن ضجيج الناس وجدالهم ومرائهم، فحين تجادل الناس تجد لجاجة وحرصا على الظهور، ولو بالباطل، إنما حينما تكون مع نفسك تسألها وتتأمل فيها، فلا مهيج ولا معاند، لا تخجل أن ينتصر عليك خصمك، ولا تطمع في مكانة أو منزلة؛ لذلك تصل بالنظر في نفسك إلى الحقيقة.
لذلك يخاطب القرآن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {قل إنما أعظكم بواحدة... 46} (سبأ) يعني: يا من تفكرون في صدق هذا الرسول، وتتهمونه بالكذب والافتراء والسحر... الخ أريد منكم شيئا واحدا {أن تقوموا لله مثنى وفرادى... 46} (سبأ) أي: مثنى مثنى، أو منفردين، كل على حدة {ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شدد46} (سبأ) إذن: الطريق إلى الحقيقة لا يكون بالمجادلة الجماهيرية، إنما بتأمل الإنسان مع نفسه، أو مع مثله، فمع الجماعة تتحرك في النفس الرغبة في العلو والانتصار، أما وحدك بحيث لا تحرج من أحد، فتكون أقرب للموضوعية وللوصول إلى الحق.
وبعد أن أمرنا ربنا بالتفكر في أنفسنا يلفتنا إلى التأمل فيما حولنا من السموات والأرض {ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى} وهناك آية أخرى تقدم التفكر في السماء والأرض على التفكر في النفس، هي قوله تعالى: {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس} (غافر 57) لماذا؟ لأن الإنسان قد يموت قبل أن يولد، ويموت بعد عدة سنوات، أو حتى بعد مئات السنين، أما السموات والأرض بما فيهما من أرض وسماء وشمس وقمر... إلخ فهي كما هي منذ خلقها الله لم تتغير، وهي تؤدي مهمتها دون تخلف، ودون صيانة، ودون أعطال، فهي بحق أعظم من خلق الناس وأكبر. إذن: الآيات والأدلة في أنفسكم وفي السموات والأرض، لكن أيهما الآية أقوى؟ قالوا: ما دامت السموات والأرض أكبر من خلق الناس فهي أقوى، فإن لم تقنع بها فانظر في نفسك؛ لذلك يقول العلماء بالمفيد والمستفيد، المفيد هو الله- عز وجل- فحينما يضرب لي مثلا يضرب لي بالأقوى، فإن لم أطقه يأتي لي بالأقل، والمستفيد هو الذي ينتقل من الأقل للأكبر. ومعنى {وما بينهما} أي: من الكواكب والأفلاك والنجوم التي نشاهدها في جو السماء...
وقوله سبحانه: {إلا بالحق} لأن السماوات والأرض وما بينهما من الكواكب والأفلاك تسير على نظام ثابت لا يتخلف، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير أبدا، وتأمل حركة الكواكب والأفلاك تجد أنها تسير وفق نظام دقيق منضبط تماما. فالشمس لم تتخلف يوما فتقول مثلا: لن أطلع اليوم على هؤلاء الناس؛ لأنهم ظالمون، لأن لها قانونا تسير به، وهي مخلوقة بحق ثابت لا يتغير، وما دامت هذه الكونيات خلقت بحق وبشيء ثابت فلك أن ترتب عليها حساباتك وتضبط بها وقتك، وأنت لا تضبط وقتك على ساعة إلا إذا كانت هي في ذاتها منضبطة. لذلك يقول سبحانه: {الشمس والقمر بحسبان} (الرحمن5) أي: مخلوقة بحساب؛ ولأنه سبحانه خلقها بحساب جعلها آلة للحساب، فقال: {والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم 39 لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون40} (يس) ويقول سبحانه: {وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب... 5} (يونس) وهل تعلمون بالقمر عدد السنين والحساب، إلا إذا كان هو مخلوق بحساب؟
ومع ذلك، ومع أن الكون خلقه الله بالحق الثابت إياك أن تظن أن ثباته دائم باق؛ لأن الله تعالى خلقه على هيئة الثبات لأجل {إلا بالحق وأجل مسمى} فبعد أن ينقضي هذا الأجل الذي أجله الله تكور الشمس وتنكدر النجوم، وتبدل الأرض غير الأرض والسماوات، فالأمر ليس مجرد أن يتغير الشيء الثابت، إنما يزول وينتهي.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لو أنّهم فكروا جيداً ورجعوا إلى عقلهم في الحكم ووجدانهم، لكانوا يطلعون جيداً على هذين الأمرين: أوّلا: إنّ العالم خلق على أساس الحق، وتحكمه أنظمة هي دليل على أنّ الخالق لهذا العالم ذو علم مطلق وقدرة كاملة.
وثانياً: هذا العالم يمضي إلى الزوال، وحيث أن الخالق الحكيم لا يمكن أن يخلقه عبثاً، فيدل ذلك على وجود عالم آخر هو الدار الباقية بعد هذه الدنيا، وإلاّ فلا مفهوم لخلق هذا العالم، وهذا الخلق الطويل العريض لا يعقل أن يكون من أجل أيّام معدودات في الحياة الدنيا، وبذلك يذعنون بوجود الآخرة!. فعلى هذا يكون التدقيق في نظم هذا العالم وحقانيته دليلا على وجود المبدأ، والتدقيق في أن هناك «أجلا مسمى» دليل على المعاد «فلاحظوا بدقة».
والتعبير ب (في أنفسهم) لا يعني أن يطالعوا في أسرار وجودهم، كما يدّعي الفخر الرازي في تفسيره، بل المراد منه أن يفكروا في داخل أنفسهم عن طريق العقل والوجدان يخلق السماوات والأرض.
والتعبير (بالحق) له معنيان: الأوّل: أنّ الخلق كان توأماً مع الحق والقانون والنظم، والآخر: أن الهدف من الخلق كان بالحق، ولا منافاة بين هذين التّفسيرين طبعاً.