السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{أَوَلَمۡ يَتَفَكَّرُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۗ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَآ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَأَجَلٖ مُّسَمّٗىۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَآيِٕ رَبِّهِمۡ لَكَٰفِرُونَ} (8)

{ أولم يتفكروا } أي : يجتهدوا في إعمال الفكر ، وقوله تعالى { في أنفسهم } يحتمل أن يكون ظرفاً كأنه قيل : أَوَلَمْ يحدثوا الفكر في أنفسهم أي : في قلوبهم الفارغة من التفكر ، والتفكر لا يكون إلا في القلوب ، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين كقولك : اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك . وأن يكون صلة أي : أو لم يتفكروا في أحوالها خصوصاً فيعلموا أن من كان منهم قادراً كاملاً لا يخلف وعده وهو إنسان ناقص فكيف بالإله الحق . ويعلموا أن الذي ساوى بينهم في الإيجاد من العدم وطورهم في أطوار الصور ، وفاوت بينهم في القوى والقدر ، وبين أحوالهم في الطول والقصر ، وسلط بعضهم على بعض بأنواع الضرر ، ومات أكثرهم مظلوماً قبل القصاص والظفر ، لا بدّ في حكمته البالغة من جمعه العدل بينهم في جزاء من وفى أو غدر ، أو شكر أو كفر . ففي ذلك دلالة على وحدانية الله تعالى وعلى الحشر ، ثم ذكر تعالى نتيجة ذلك وعلله بقوله في أسلوب التأكيد لأجل إنكارهم . وعلى التقدير الأوّل يكون المتفكر فيه { ما خلق الله } أي : بعز جلاله وعلوه في كماله { السماوات والأرض } على ما هما عليه من النظام المحكم والقانون المتقن ، قال البقاعي : وإفراد الأرض لعدم دليل حسي أو عقلي يدلهم على تعدّدها بخلاف السماء ا . ه وقد يردّ هذا بقوله تعالى : { خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهنّ } ( الطلاق : 12 ) { وما بينهما } من المعاني التي بها كمال منافعهما { إلا } خلقاً متلبساً { بالحق } أي : الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع ، فإذا ذكر البعث الذي هو مبدأ الآخرة التي هذا أسلوبها وجد الواقع في تصوير النطف ونفخ الروح وتمييز الصالح منهما للتصوير من الفاسد يطابق ذلك ، وإذا تدبر النبات بعد أن كان هشيماً قد نزل عليه الماء فزها واهتز وربا وجده مطابقاً لأمر البعث ، وإذا ذكر القدرة فرأى اختلاف الليل والنهار وسير الكواكب الصغار والكبار ، وإمطار الأمطار وإجراء الأنهار ، ونحو ذلك من الأسرار رآه مطابقاً لكل ما يخطر بالبال .

ولما كان عندهم أن هذا الوجود حياة وموت لا إلى نفاد قال تعالى { وأجل } لا بد أن ينتهي إليه { مسمى } أي : في العلم من الأزل ، لذلك يفنى عند انتهائه وبعده البعث . ولما كانوا ينكرون أنهم على كفر أكد قوله تعالى { وإن كثيراً من الناس } مع ذلك على وضوحه { بلقاء ربهم } أي : الذي ملأهم إحساناً برجوعهم في الآخرة إلى العرض عليه للثواب والعقاب { لكافرون } أي : لا يؤمنون بالبعث بعد الموت .

فإن قيل : ما الفائدة في قوله تعالى ههنا { وإن كثيراً من الناس } وقال من قبل { ولكن أكثر الناس } ؟ أجيب : بأن فائدته أنه من قبل لم يذكر دليلاً على الأصلين وههنا قد ذكر الدلائل الراسخة والبراهين اللائحة ، ولا شك في أن الإيمان بعد الدليل أكثر من الإيمان قبل الدليل . فبعد الدليل لابد أن يؤمن من ذلك جمع فلا يبقى الأكثر كما هو ، فقال بعد إقامة الدليل : و{ إن كثيراً } وقال قبله : { ولكن أكثر الناس } لأنه بعد الدليل لا يمكن الذهول عنه وهو السماوات والأرض لأن من البعيد أن يذهل الإنسان عن السماء التي فوقه والأرض التي تحته .