غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{أَوَلَمۡ يَتَفَكَّرُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۗ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَآ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَأَجَلٖ مُّسَمّٗىۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَآيِٕ رَبِّهِمۡ لَكَٰفِرُونَ} (8)

1

ثم أشار إلى وجه التفكر بقوله { أولم يتفكروا } وقوله { في أنفسهم } يتعلق به أما تعلق الظرف بالفعل كأنه قال : أولم يحدثوا التفكر في قلوبهم الفارغة فيكون كما لو قلت لأجل زيادة التصوير اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك مع أن الاعتقاد لا يكون إلا في القلب ، والإضمار لا يوجد إلا في النفس . وأما تعلق الجار بالفعل كقولك : تفكر في الأمور . وذلك أنه إذا تفكر في نفسه التي هي أقرب الأشياء إليه وقف على غرائب الحكم ودقائق الصنع التي أودعها الله تعالى فيها كما يكفل بيان بعضها علم التشريح فجره ذلك إلى العلم بأنه سبحانه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا متلبساً بالغرض الصحيح الذي أودعه الله فيها ، وبتقدير أجل مسمى هو وقت الجزاء والحساب ، ثم في الآية تقريران : أحدهما يناسب أصول الأشاعرة وهو أن دلائل الأنفس منجرة إلى دلائل الآفاق المذكورة للتوحيد وللعلم بالإله القادر المختار الصادق كلامه ، لكنه أخبر عن تخريب السموات والأرض وعن حشر الأجساد وانتهاء الجسمانيات إلى الإفناء ثم الإعادة في الوقت المعلوم فيكون الأمر على ما أخبر . وثانيهما يتوقف على أصول المعتزلة ، وهو أن التفكر في النفس يجذب بصنعه إلى معرفة الإِله الحكيم الذي لا يفعل العبث والجزاف ، فإنه خلق السموات وغيرها من الأجسام لمنافع المكلفين ، وإذا انتهى التكليف فلا بد من تخريب السموات والأرض وانتهاء الأمر إلى حالة الجزاء واللقاء كي لا تنخرم قاعدة الحكمة والتدبير ورعاية الصلاح والعدل . ثم قال { وإن كثيراً من الناس } وقد قال قبل ذلك { ولكن أكثر الناس } لأنه قد ذكر دليلاً على الأصول ، ولا شك أن الإيمان بعد الدليل يكون أكثر من الإيمان قبل الدليل فلا يبقى الأكثر كما هو فعبر عن الباقي بالكثير . قال في الكشاف والمراد { بلقاء ربهم } الأجل المسمى ، والأشاعرة يحملونه على الرؤية ، واعلم أن دليل الأنفس مقدم على دليل الآفاق ، لأن الإنسان قلما يذهل عن نفسه ، وأن نفسه أقرب الأشياء إليه نظير الآية قوله سبحانه { الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض } [ آل عمران : 191 ] أي يعرفون الله بدلائل الأنفس في سائر الأحوال ، ويتفكرون في خلق السموات والأرض بدلائل الآفاق . وإنما أخر الأنفس في قوله { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } [ فصلت : 53 ] لأن الإراءة إنما يفتقر إليها في معرفة الأبعد الأخفى كأنه قال : سنريهم آياتنا الآفاقية فإن لم يفهموها فآيات الأنفس معلومة . وهذا الترتيب لا يناسب التفكر بل الفكر يتصور دليل الأنفس أولاً ثم يرتقي إلى دليل الآفاق فظهر أن كل آية وردت على ما اقتضته الحكمة والبلاغة . وحين ذكر دليل النفس الذي لا يقع الذهول عنه إلا ندرة ارتقى إلى دليل السموات والأرض الذي يقع الذهول عنه في كثير من الأحوال لكنه لا يحتاج إلا إلى التفات ذهني .

/خ32