البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَوَلَمۡ يَتَفَكَّرُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۗ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَآ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَأَجَلٖ مُّسَمّٗىۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَآيِٕ رَبِّهِمۡ لَكَٰفِرُونَ} (8)

و { في أنفسهم } : معمول ليتفكروا ، إما على تقدير مضاف ، أي في خلق أنفسهم ليخرجوا من الغفلة ، فيعلموا أنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا فقط ، ويستدلوا بذلك على الخالق المخترع .

ثم أخبر عقب هذا بأن الحق هو السبب في خلق السموات والأرض ؛ وأما على أن يكون { في أنفسهم } ظرفاً للفكرة في خلق السموات والأرض ، فيكون { في أنفسهم } توكيداً لقوله : { يتفكرون } ، كما تقول : أبصر بعينك واسمع بأدنك .

وقال الزمخشري : في هذا الوجه كأنه قال : أو لم يحدثوا التفكر في أنفسهم ؟ أي في قلوبهم الفارغة من الفكر .

والفكر لا يكون إلا في القلوب ، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين ، كقولك : اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك .

وقال أيضاً : يكون صلة المتفكر ، كقولك : تفكر في الأمر وأجال فكره .

و { ما خلق الله } متعلق بالقول المحذوف ، معناه : أو لم يتفكروا ، فيقولوا هذا القول ؟ وقيل معناه : فيعلموا ، لأن في الكلام دليلاً عليه . انتهى .

والدليل هو قوله : { أو لم يتفكروا } .

وقيل : { أو لم يتفكروا } متصل بما بعده ، ومثله : ثم { يتفكروا ما بصاحبهم من جنة } ومثله : { وظنوا ما لهم من محيص } فيكون في بمعنى الباء ، ثم { يتفكروا ما بصاحبهم من } ، كأنه قال : أو لم يتفكروا بقلوبهم فيعلموا . انتهى .

ويجوز أن يكون تفكروا هنا معلقة ، ومتعلقها الجملة من قوله : { ما خلق } إلى آخرها .

و { في أنفسهم } : ظرف على سبيل التأكيد ، لأن الفكر لا يكون إلا في النفس ، كما أن الكتابة لا تكون إلا باليد .

و { بالحق } : في موضع الحال ، أي وهي ملتبسة بالحق مقترنة به ، وبتقدير أجل مسمى لا بد لها أن تنتهي إليه وهو : قيام الساعة ، ووقت الحساب والثواب والعقاب .

ألا ترى إلى قوله : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون } كيف سمى تركهم غير راجعين إليه عبثاً ؟ والمراد بلقاء ربهم : الأجل المسمى .

وقال ابن عطية : { إلا بالحق } ، أي بسبب المنافع التي هي حق واجب ، يريد من الدلالة عليه والعبادة له دون فتور ، والانتصار للعبرة ومنافع الإرفاق وغير ذلك .

{ وأجل } عطف على الحق ، أي وبأجل مسمى ، وهو يوم القيامة .

ففي الآية إشارة إلى البعث والنشور وفساد بنية هذا العالم .

ثم أخبر عن كثير من الناس أنهم كفروا بذلك المعنى ، فعبر عنها بلقاء الله ، لأن لقاء الله هو عظيم الأمر ، فيه النجاة والهلكة . انتهى .

وقال أبو عبد الله الرازي : قدم هنا دلائل الأنفس على دلائل الآفاق ، وفي :

{ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } دلائل الآفاق على دلائل الأنفس ، وحكمة ذلك أن المفيد يذكر الفائدة على وجه يختارها ، فإن فهمت ، وإلا انتقل إلى الأبين .

والمستفيد يفهم أولاً الأبين ، ثم يرتقي إلى الأخفى .

وفي { أو لم يتفكروا } بفعل مسند إلى السامع ، فبدأ بما يفهم أولاً ، ثم ارتقى إليه ثانياً .

وفي { سنريهم } أسند إلى المفيد ، فذكر أولاً ، الآفاق ، فإن لم يفهموا ، فالأنفس ، إذ لا ذهول للإنسان عن دلائلها ، بخلاف دلائل الآفاق ، لأنه قد يذهل عنها ، وهذا مراعي في { الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً } الآية .

بدأ بأحوال الأنفس ، ثم بدلائل الآفاق .

وقال أيضاً هنا : { وإن كثيراً } ، { وقبل } ، { ولكن أكثر الناس } ، وذلك أن هنا ذكر كثيراً بعد ذكر الدلائل الواضحة ، وهما : { أو لم يتفكروا في أنفسهم } ، و { ما خلق الله } .

والإيمان بعد الدلائل أكثر من الإيمان قبلها ، فبعد ذكر الدليل ، لا بد أن يؤمن من ذلك الأكثر جمع ، فلا يبقى الأكثر .

انتهى ، وفيه تلخيص .

ولا يتم كلامه الأول إلا إذا جعل { في أنفسهم } محلاً للتفكر ، وجعل { ما خلق } أيضاً محلاً ثانياً .