نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{أَوَلَمۡ يَتَفَكَّرُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۗ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَآ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَأَجَلٖ مُّسَمّٗىۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَآيِٕ رَبِّهِمۡ لَكَٰفِرُونَ} (8)

ولما كان التقدير : أفلم يتدبروا القرآن وما كشف لهم عنه من الحكم والأمور التي وعد الله بها على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فيه أو في السنة ، فكانت على حسب ما وعد ، أو لم يتأملوا مصنوعات الله عموماً فتدلهم عقولهم منها على أنه لا يصلح للإلهية إلا من كان حكيماً ، ولا يكون حكيماً إلا من صدق في وعده ، و أنه لا تتم الحكمة إلا بإيجاد الآخرة ، عطف عليه قوله منكراً عليهم موبخاً{[52665]} لهم : { أولم يتفكروا } أي يجتهدوا في إعمال الفكر ، ثم ذكر آلة الفكر زيادة في تصوير حال المتفكرين والتذكير بهيئة المعتبرين فقال : { في أنفسهم } ويجوز أن تكون هي المتفكر فيه فيكون المعنى : يتفكروا في أحوالها خصوصاً فيعلموا أن من كان منهم قادراً كاملاً لا يخلف وعده وهو إنسان ناقص ، فكيف بالإله الحق ، ويعلموا أن{[52666]} الذي ساوى بينهم في الإيجاد من العدم وطورهم{[52667]} في أطوار الصور ، وفاوت بينهم في القوى والقدر ، وبين آجالهم في الطول والقصر ، وسلط بعضهم على بعض بأنواع الضرر ، وأمات أكثرهم مظلوماً قبل القصاص والظفر ، لا بد في حكمته البالغة من جمعهم للعدل بينهم في جزاء من وفى أو غدر ، أو شكر أو{[52668]} كفر ، ثم ذكر نتيجة ذلك وعلله بقوله في أسلوب التأكيد لأجل إنكارهم ، وعلى التقدير الأول يكون هذا هو المتفكر فيه { ما خلق الله } أي بعز جلاله{[52669]} ، وعلوه في كماله { السماوات والأرض } على ما هما عليه من النظام المحكم ، والقانون المتقن ، وأفرد الأرض لعدم دليل حسي أو عقلي يدلهم على تعددها بخلاف السماء { وما بينهما } من المعاني التي بها كمال منافعهما { إلا } خلقاً متلبساً { بالحق } أي{[52670]} الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع ، فإذا ذكر البعث الذي هو مبدأه الآخرة التي هذا أسلوبها وجد الواقع في تصوير النطف ونفخ الروح وتمييز الصالح{[52671]} منها للتصوير من الفاسد يطابق ذلك ، وإذا تدبر{[52672]} النبات بعد أن كان هشيماً {[52673]}قد نزل{[52674]} عليه الماء فزها واهتز وربا وجده مطابقاً للأمر البعث ، وإذا ذكر القدرة فرأى اختلاف الليل والنهار ، وسير الكواكب الصغار والكبار ، وإمطار الأمطار ، وإجراء الأنهار ، ونحو ذلك من الأسرار ، رآه{[52675]} مطابقاً لكل ما يخطر في باله من الأقدار ، وإذا خطر له العلم ، فتبصر في جري هذه الأمور وغيرها على منهاج مستقيم ، ونظام واضح قويم ، وسير متقن{[52676]} حكيم ، علم أن ذلك في غاية المطابقة للخبر بالعلم الشامل والقدرة التامة على البعث وغيره{[52677]} ، أو إلا بالأمر الثابت والقضاء النافذ الذي لا يتخلف عنه المراد ، ولا يستعصي عليه حيوان ولا جماد ، و{[52678]} خلقكم من هذا الخلق الكبير الذي قام بأمره من بعض ترابه .

ثم جعلكم من سلالة من ماء مهين ، فالقدرة التي{[52679]} خلق بها ذلك كله وابتدأكم{[52680]} ثم يبيدكم ، بها بعينها يحييكم ويعيدكم ، ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون ، أو إلا بسبب إحقاق{[52681]} الحق وإبطال الباطل ، فلا بد من تصديق وعده بإدالة الروم لأخذ حقهم من الفرس ، ولا بد من{[52682]} أن يقيمكم بعد أن ينيمكم{[52683]} ويثبت كل حق رأيتموه قد أبطل ، ويبطل كل باطل رأيتموه قد أعمل ، لأنه أحكم الحاكمين ، فلو أقر على إماتة حق أو إحياء باطل لما كان كذلك .

ولما كان عندهم أن هذا الوجود حياة وموت لا إلى نفاد ، قال : { وأجل } لا بد أن ينتهي إليه { مسمى } أي في العلم من الأزل ، وذلك الأجل هو وقت قيام الساعة ، وذلك أنه كما جعل لهم آجالاً لأصلهم وفرعهم لم يشذ عنها أحد منهم{[52684]} فكذلك لا بد من أجل مسمى لما خلقوا منه ، فإذا جاء ذلك الأجل انحل هذا النظام ، واختل هذا الإحكام{[52685]} ، وزالت هذه الأحكام ، {[52686]}فتساقطت هذه الأجرام ، وصارت إلى ما كانت عليه من الإعدام ، وإلا كان الخلق عبثاً يتعالى عنه الملك العلام{[52687]} .

ولما كانوا ينكرون أنهم على كفر ، أكد قوله : { وإن كثيراً من الناس } مع ذلك على وضوحه { بلقاء ربهم } الذي ملأهم إحساناً برجوعهم في الآخرة إلى العرض عليه للثواب والعقاب { لكافرون } أي لساترون ما في عقولهم من دلائل وحدانيته وحجج قدرته وحكمته ستراً عظيماً ، كأنه غريزة لهم ، فهم لذلك يكذبون بما وعدكم سبحانه من إدالة الروم على فارس ، فلا يهولنكم ذلك لأنهم قد كذبوا بما هو أكبر منه ، وهو الآخرة على ما لها من الدلائل التي تفوت الحصر ، وإذا راجعت{[52688]} ما تقدم في آية الأنعام

{ و{[52689]} هو الذي خلقكم من طين }[ آية : 2 ] ازددت في هذا بصيرة .


[52665]:في ظ: توبيخا.
[52666]:زيد من ظ ومد.
[52667]:من ظ ومد، وفي الأصل: صورهم.
[52668]:في ظ "و".
[52669]:سقط من ظ.
[52670]:زيد من ظ ومد.
[52671]:من ظ ومد، وفي الأصل: المصالح.
[52672]:من ظ ومد، وفي الأصل: تدبرت.
[52673]:في ظ ومد: فنزل.
[52674]:في ظ ومد: فنزل.
[52675]:في ظ ومد: تراه.
[52676]:من ظ ومد، وفي الأصل: متفق.
[52677]:زيد من ظ ومد.
[52678]:زيد من ظ ومد.
[52679]:من ظ ومد، وفي الأصل: الذي.
[52680]:من ظ ومد، وفي الأصل: أبداكم.
[52681]:من ظ ومد، وفي الأصل: إثبات.
[52682]:زيد من ظ ومد.
[52683]:من ظ ومد، وفي الأصل: سكم ـ كذا.
[52684]:من ظ ومد، وفي الأصل: منهما.
[52685]:من ظ ومد، وفي الأصل: الاحتكام.
[52686]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[52687]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[52688]:في ظ: رجعت.
[52689]:زيد من ظ ومد وآية 2.