{ 102 } { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ }
لما قص الله هذه القصة على محمد صلى الله عليه وسلم قال الله له : { ذَلِكَ } الإنباء الذي أخبرناك به { مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ } الذي لولا إيحاؤنا إليك لما وصل إليك هذا الخبر الجليل ، فإنك لم تكن حاضرا لديهم { إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ } أي : إخوة يوسف { وَهُمْ يَمْكُرُونَ } به حين تعاقدوا على التفريق بينه وبين أبيه ، في حالة لا يطلع عليها إلا الله تعالى ، ولا يمكن أحدا أن يصل إلى علمها ، إلا بتعليم الله له إياها .
كما قال تعالى لما قص قصة موسى وما جرى له ، ذكر الحال التي لا سبيل للخلق إلى علمها إلا بوحيه { وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين } الآيات ، فهذا أدل دليل على أن ما جاء به رسول الله حقا .
انتهت قصة يوسف لتبدأ التعقيبات عليها . تلك التعقيبات التي أشرنا إليها في مقدمة الحديث عن السورة . وتبدأ معها اللفتات المتنوعة واللمسات المتعددة ، والجولات الموحية في صفحة الكون وفي أغوار النفس وفي آثار الغابرين ، وفي الغيب المجهول وراء الحاضر المعلوم . فنأخذ في استعراضها حسب ترتيبها في السياق . وهو ترتيب ذوهدف معلوم .
تلك القصة لم تكن متداولة بين القوم الذين نشأ فيهم محمد [ ص ] ثم بعث إليهم . وفيها أسرار لم يعلمها إلا الذين لامسوها من أشخاص القصة ، وقد غبرت بهم القرون . وقد سبق في مطلع السورة قول الله تعالى لنبيه :
( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن ، وإن كنت من قبله لمن الغافلين ) .
فها هو ذا يعقب على القصة بعد تمامها ، ويعطف ختامها على مطلعها :
ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ، وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون . .
ذلك القصص الذي مضى في السياق من الغيب الذى لا تعلمه ؛ ولكننا نوحيه إليك وآية وحيه أنه كان غيبا بالقياس إليك . وما كنت معهم إذ اجتمعوا واتفق رأيهم ، وهم يمكرون ذلك المكر الذي تحدثت عنه القصة في مواضعه . وهم يمكرون بيوسف ، وهم يمكرون بأبيهم ، وهم يدبرون أمرهم بعد أخذ أخيه وقد خلصوا نجيا وهو من المكر بمعنى التدبير . وكذلك ما كان هناك من مكر بيوسف من ناحية النسوة ومن ناحية رجال الحاشية وهم يودعونه السجن . . كل أولئك مكر ما كنت حاضره لتحكي عنه إنما هو الوحي الذي سيقت السورة لتثبته من بين ما تثبت من قضايا هذه العقيدة وهذا الدين ، وهي متناثرة في مشاهد القصة الكثيرة .
يقول تعالى لعبده ورسوله محمد ، صلوات الله وسلامه عليه ، لما قص عليه نبأ إخوة يوسف ، وكيف رفعه الله عليهم ، وجعل له العاقبة والنصر والملك والحكم ، مع ما أرادوا به من السوء والهلاك والإعدام : هذا وأمثاله يا محمد من أخبار الغيوب السابقة ، { نُوحِيهِ إِلَيْكَ } ونعلمك به لما فيه من العبرة لك والاتعاظ لمن خالفك ، { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ } حاضرا عندهم ولا مشاهدا لهم { إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ } أي : على إلقائه في الجب ، { وَهُمْ يَمْكُرُونَ } به ، ولكنا أعلمناك به وحيا إليك ، وإنزالا عليك ، كما قال تعالى : { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [ آل عمران : 44 ]وقال تعالى : { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ } [ القصص : 44 ]إلى أن قال : { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } [ القصص : 46 ] وقال { وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } [ القصص : 45 ] وقال { مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِين } [ ص : 69 ، 70 ]
يقرر تعالى أنه رسوله ، وأنه قد أطلعه على أنباء ما قد سبق مما فيه عبرة للناس ونجاة لهم في دينهم ودنياهم ؛ ومع هذا ما آمن أكثر الناس ؛ ولهذا قال : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ }
وقال { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [ الأنعام : 116 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله تعالى : { ذلك من أنباء الغيب } الآية ، { ذلك } إشارة إلى ما تقدم من قصة يوسف ، وهذه الآية تعريض لقريش وتنبيه على آية صدق محمد ، وفي ضمن ذلك الطعن على مكذبيه .
والضمير في { لديهم } عائد إلى إخوة يوسف ، وكذلك الضمائر إلى آخر الآية ، و { أجمعوا } معناه : عزموا وجزموا ، و { الأمر } هنا هو إلقاء يوسف في الجب ، و «المكر » هو أن تدبر على الإنسان تدبيراً يضره ويؤذيه والخديعة هي أن تفعل بإنسان وتقول له ما يوجب أن يفعل هو فعلاً فيه عليه ضرر . وحكى الطبري عن أبي عمران الجوني أنه قال : والله ما قص الله نبأهم ليعيرهم بذلك ، إنهم لأنبياء من أهل الجنة ، ولكن قص الله علينا نبأهم لئلا يقنط عبده .
تذييل للقصة عند انتهائها . والإشارة إلى ما ذُكر من الحادث أي ذلك المذكور .
واسم الإشارة لتمييز الأنباء أكمل تمييز لتتمكن من عقول السامعين لما فيها من المواعظ .
و { الغيب } ما غاب عن علم الناس ، وأصله مصدر غاب فسمي به الشيء الذي لا يشاهد . وتذكير ضمير { نوحيه } لأجل مراعاة اسم الإشارة .
وضمائر { لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون } عائدة إلى كل من صدر منه ذلك في هذه القصة من الرجال والنساء على طريقة التغليب ، يشمل إخوة يوسف عليه السلام والسيارةَ ، وامرأةَ العزيز ، ونسوتَها .
و { أجمعوا أمرهم } تَفسيره مثل قوله : { وأجمعوا أن يجعلوه في غيابَات الجب } [ يوسف : 15 ] .
والمكر تقدم ، وهذه الجملة استخلاص لمواضع العبرة من القصة . وفيها منّة على النبي ، وتعريض للمشركين بتنبيههم لإعجاز القرآن من الجانب العلمي ، فإن صدور ذلك من النّبي الأميّ آية كبرى على أنه وحي من الله تعالى . ولذلك عقب بقوله : { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } .
وكان في قوله : { وما كنت لديهم } توركاً على المشركين . وجملة { وما كنت لديهم } في موضع الحال إذ هي تمام التعجيب .
وجملة { وهم يمكرون } حال من ضمير { أجمعوا } ، وأتي { يمكرون } بصيغة المضارع لاستحضار الحالة العجيبة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.