{ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } أي : واشكروه على ما أسدى إليكم من النعم { وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ } أي : في رزقه ، فتستعملونه في معاصيه ، وتبطرون النعمة ، فإنكم إن فعلتم ذلك ، حل عليكم غضبي أي : غضبت عليكم ، ثم عذبتكم ، { وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى } أي : ردى وهلك ، وخاب وخسر ، لأنه عدم الرضا والإحسان ، وحل عليه الغضب والخسران .
وهو يذكرهم بهذه النعم ليأكلوا من الطيبات التي يسرها لهم ويحذرهم من الطغيان فيها . بالبطنة والانصراف إلى لذائذ البطون والغفلة عن الواجب الذي هم خارجون له ، والتكليف الذي يعدهم ربهم لتلقيه . ويسميه طغيانا وهم قريبو العهد بالطغيان ، ذاقوا منه ما ذاقوا ، ورأوا من نهايته ما رأوا . ( ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي . ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ) . . ولقد هوى فرعون منذ قليل . هوى عن عرشه وهوى في الماء . . والهوى إلى أسفل يقابل الطغيان والتعالي . والتعبير ينسق هذه المقابلات في اللفظ والظل على طريقة التناسق القرآنية الملحوظة .
هذا هو التحذير والإنذار للقوم المقدمين على المهمة التي من أجلها خرجوا ؛ كي لا تبطرهم النعمة ، ولا يترفوا فيها فيسترخوا . .
أي : كلوا من هذا [ الرزق ]{[19455]} الذي رزقتكم ، ولا تطغوا في رزقي ، فتأخذوه من غير حاجة ، وتخالفوا ما آمركم به ، { فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي } أي : أغضب عليكم { وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أي : فقد شقي .
وقال شُفَيّ بن ماتع : إن في جهنم قصرًا يُرمى الكافر من أعلاه ، فيهوي في جهنم أربعين خريفًا قبل أن يبلغ الصلصال ، وذلك قوله : { وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى } رواه ابن أبي حاتم .
ويكون قوله تعالى : { كلوا } بتقدير قيل لهم كلوا ، وتكون الآية على هذا اعتراضاً في أثناء قصة موسى المقصد به توبيخ هؤلاء الحضور إذ لم يصبر سلفهم على أداء شكر نعم الله تعالى ، والمعنى الأول أظهر وأبين . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «نجينا وواعدنا ونزلنا ورزقناكم » إلا أن أبا عمرو قرأ «وعدناكم » بغير ألف في كل القرآن{[8139]} ، وقرأ حمزة والكسائي «أنجيت وواعدت ونزلنا ورزقتكم » . وقوله { وواعدناكم } قيل هي لغة في وعد لا تقتضي فعل اثنين ع وإن حملت على المعهود فلأن التلقي والعزم على ذلك كالمواعدة ، وقصص هذه الآية أن الله تعالى لما أنجى بني إسرائيل وغرق فرعون وعد بني إسرائيل وموسى أن يصيروا إلى جانب طور سيناء ليكلم فيه موسى ويناجيه بما فيه صلاحهم بأوامرهم ونواهيهم ، فلما أخذوا في السير تعجل موسى عليه السلام للقاء ربه حسبما يأتي ذكره ، وقالت فرقة هذا { الطور } هو الذي كلم فيه موسى أولاً حيث رأى النار وكان في طريقه من الشام إلى مصر ، وقالت فرقة ليس به و { الطور } الجبل الذي لا شعرا فيه{[8140]} وقوله { الأيمن } إما أن يريد اليمن وإما أن يريد اليمين بالإضافة إلى ذي يمين إنسان أو غيره . و { المن والسلوى } طعامهم ، وقد مضى في البقرة استيعاب تفسيرهما ، وقوله تعالى : { من طيبات } يريد الحلال الملك ، لأن المعنى في هذا الموضع قد جمعهما واختلف الناس ما القصد الأول بلفظة الطيب في القرآن ، فقال مالك رحمه الله الحلال ، وقال الشافعي ما يطيب للنفوس ، وساق إلى هذا الخلاف تفقههم في الخشاش{[8141]} والمستقذر من الحيوان . و { تطغوا } معناه تتعدون الحد وتتعسفون كالذي فعلوا ع . وقرأ جمهور الناس «فيحِل » بكسر الحاء «ومن يحلِل » بكسر اللام ، وقرأ الكسائي وحده{[8142]} «فيحُل » بضم الحاء «ومن يحلُل » بضم اللام فمعنى الأول فيجب ومعنى الثاني فيقع وينزل ، و { هوى } معناه سقط من علو إلى أسفل ومنه قول خنافر :
فهوى هوي العقاب . . . {[8143]} قال القاضي أبو محمد : وإن لم يكن سقوطاً فهو شبيه بالساقط والسقوط حقيقة قول الآخر : [ الوافر ]
هويّ الدلْو أسلمه الرشاء{[8144]} . . . ويشبه الذي وقع في طامة أو ورطة بعد أن كان بنجوة منها بالساقط فالآية من هذا أي «هوي » في جهنم وفي سخط الله ، وقيل أخذ الفعل من لفظ الهاوية وهو قعر جهنم .
جملة { كُلُوا } مقولٌ محذوف . تقديره : وقلنا أو قائلين . وتقدم نظيره في سورة البقرة .
وقرأ الجمهور { ما رزقناكم } بنون العظمة . وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف ما رزقتكم بتاء المفرد .
ومعنى النهي عن الطغيان في الرزق : النهي عن ترك الشكر عليه وقلّة الاكتراث بعبادة المُنعِم .
وحرف ( في ) الظرفيّة استعارةٌ تبعية ؛ شبه ملابسة الطغيان للنّعمة بحلول الطغيان فيها تشبيهاً للنعمة الكثيرة بالوعاء المحيط بالمنعَم عليه على طريقة المكنية ، وحرف الظرفية قرينتها .
والحلول : النزول والإقامة بالمكان ؛ شبهت إصابة آثار الغضب إياهم بحلول الجيش ونحوه بديار قوم .
وقرأ الجمهور فيحِلّ عليكم بكسر الحاء وقرأوا ومن يحلِل عليه غضبي بكسر اللاّم الأولى على أنهما فعلا حَلّ الدّيْن يقال : حلّ الديْن إذا آن أجل أدائه . وقرأه الكسائي بالضمّ في الفعلين على أنّه من حلّ بالمكان يحُلّ إذا نزل به . كذا في « الكشاف » ولم يتعقبوه .
وهذا مما أهمله ابن مالك في « لامية الأفعال » ، ولم يستدركه شارحها بَحْرَق اليمني في « الشرح الكبير » . ووقع في « المصباح » ما يخالفه ولا يعوّل عليه . وظاهر « القاموس » أن حلّ بمعنى نزل يستعمل قاصراً ومتعدياً ، ولم أقف لهم على شاهد في ذلك .
وهوَى : سقط من علوّ ، وقد استعير هنا للهلاك الذي لا نهوض بعده ، كما قالوا : هوت أمّه ، دعاء عليه ، وكما يقال : ويل أمّه ، ومنه : { فأمه هاوية } [ القارعة : 9 ] ، فأريد هويّ مخصوص ، وهو الهوي من جبل أو سطح بقرينة التهديد .