وتسلسل الصلاح والتوفيق بذرياتهم ، فلهذا قال تعالى { ذرية بعضها من بعض } أي : حصل التناسب والتشابه بينهم في الخلق والأخلاق الجميلة ، كما قال تعالى لما ذكر جملة من الأنبياء الداخلين في ضمن هذه البيوت الكبار { ومن آبائهم وإخوانهم وذرياتهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم } { والله سميع عليم } يعلم من يستحق الاصطفاء فيصطفيه ومن لا يستحق ذلك فيخذله ويرديه ، ودل هذا على أن هؤلاء اختارهم لما علم من أحوالهم الموجبة لذلك فضلا منه وكرما ، ومن الفائدة والحكمة في قصه علينا أخبار هؤلاء الأصفياء أن نحبهم ونقتدي بهم ، ونسأل الله أن يوفقنا لما وفقهم ، وأن لا نزال نزري{[2]} أنفسنا بتأخرنا عنهم وعدم اتصافنا بأوصافهم ومزاياهم الجميلة ، وهذا أيضا من لطفه بهم ، وإظهاره الثناء عليهم في الأولين والآخرين ، والتنويه بشرفهم ، فلله ما أعظم جوده وكرمه وأكثر فوائد معاملته ، لو لم يكن لهم من الشرف إلا أن أذكارهم مخلدة ومناقبهم مؤبدة لكفى بذلك فضلا .
( ذرية بعضها من بعض ، والله سميع عليم ) . .
ولقد ذكر السياق آدم ونوحا فردين ؛ وذكر آل إبراهيم وآل عمران أسرتين . إشارة إلى أن آدم بشخصه ونوحا بشخصه هما اللذان وقع عليهما الاصطفاء . فأما إبراهيم وعمران فقد كان الاصطفاء لهما ولذريتهما كذلك - على القاعدة التي تقررت في سورة البقرة عن آل إبراهيم : قاعدة أن وراثة النبوة والبركة في بيته ليست وراثة الدم ، إنما هي وراثة العقيدة : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال : إني جاعلك للناس إماما . قال : ومن ذريتي ؟ قال : لا ينال عهدي الظالمين ) . .
وبعض الروايات تذكر أن عمران من آل إبراهيم . فذكر آل عمران إذن تخصيص لهذا الفرع لمناسبة خاصة ، هي عرض قصة مريم وقصة عيسى عليه السلام . . كذلك نلاحظ أن السياق لم يذكر من آل إبراهيم لا موسى ولا يعقوب [ وهو إسرائيل ] كما ذكر آل عمران . . ذلك أن السياق هنا يستطرد إلى الجدل حول عيسى بن مريم وحول إبراهيم - كما سيأتي في الدرس التالي - فلم تكن هناك مناسبة لذكر موسى في هذا المقام أو ذكر يعقوب . .
يخبر تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض ، فاصطفى آدم ، عليه السلام ، خلقه بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وأسجد له ملائكته ، وعلمه أسماء كل شيء ، وأسكنه الجنة ثم أهبطه منها ، لما له في ذلك من الحكمة .
واصطفى نوحا ، عليه السلام ، وجعله أول رسول [ بعثه ]{[4947]} إلى أهل الأرض ، لما عبد الناس الأوثان ، وأشركوا في دين الله ما لم ينزل به سلطانا ، وانتقم له لما طالت مدته بين ظَهْرَاني قومه ، يدعوهم إلى الله ليلا ونهارًا ، سرا وجهارًا ، فلم يزدهم ذلك إلا فرارًا ، فدعا عليهم ، فأغرقهم الله عن آخرهم ، ولم يَنْجُ منهم إلا من اتبعه على دينه الذي بعثه الله به .
واصطفى آل إبراهيم ، ومنهم : سيد البشر وخاتم الأنبياء على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم ، وآل عمران ، والمراد بعمران هذا : هو والد مريم بنت عمران ، أم عيسى ابن مريم ، عليهم السلام . قال محمد بن إسحاق بن يَسار{[4948]} رحمه الله : هو عمران بن ياشم بن أمون بن ميشا بن حزقيا بن أحريق بن يوثم بن عزاريا{[4949]} ابن أمصيا بن ياوش بن أجريهو بن يازم بن يهفاشاط بن إنشا بن أبيان{[4950]} بن رخيعم بن سليمان بن داود ، عليهما السلام . فعيسى ، عليه السلام ، من ذرية إبراهيم ، كما سيأتي بيانه في سورة الأنعام ، إن شاء الله وبه الثقة .
وقوله تعالى : { ذرية } نصب على البدل ، وقيل على الحال لأن معنى { ذرية بعضها من بعض } متشابهين في الدين والحال ، وهذا أظهر من البدل ، والذرية في عرف الاستعمال تقع لما تناسل من الأولاد سفلاً ، واشتقاق اللفظة في اللغة يعطي أن تقع على جميع الناس أي كل أحد ذرية لغيره فالناس كلهم ذرية بعضهم لبعض ، وهكذا استعملت الذرية في قوله تعالى :
{ أنا حملنا ذرياتهم في الفلك المشحون }{[3100]}أي ذرية هذا الجنس ولا يسوغ أن يقول في والد هذا ذرية لولده وإذ اللفظة من ذر إذا بث فهكذا يجيء معناها ، وكذلك إن جعلناها من «ذرى » وكذلك إن جعلت من ذرأ أو من الذر الذي هو صغار النمل{[3101]} ، قال أبو الفتح{[3102]} : الذرية يحتمل أن تكون مشتقة من هذه الحروف الأربعة ، ثم طول أبو الفتح القول في وزنها على كل اشتقاق من هذه الأربعة الأحرف تطويلاً لا يقتضي هذا الإيجاز ذكره وذكرها أبو علي في الأعراف في ترجمة { من ظهورهم ذرياتهم }{[3103]} قال الزجّاج : أصلها فعليه من الذر ، لأن الله أخرج الخلق من صلب آدم كالذر ، قال أبو الفتح : هذه نسبة إلى الذر غير أولها كما قالوا في النسبة إلى الحرم : حرمي بكسرالحاء وغير ذلك من تغيير النسب قال الزجّاج : وقيل أصل { ذرية } ذرورة ، وزنها فعلولة فلما كثرت الراءات أبدلوا من الأخيرة ياء فصارت ذروية ثم أدغمت الواو في الياء فجاءت { ذرية } .
قال القاضي فهذا اشتقاق من ذر يذر ، أو من ذرى ، وإذا كانت من ذرأ فوزنها فعلية كمريقة أصلها ذرئة فألزمت البدل والتخفيف كما فعلوا في البرية في قول من رآها من برأ الله الخلق ، وفي كوكب دري ، في قول من رآه من -درأ- لأنه يدفع الظلمة بضوئه .
وقرأ جمهور الناس «ذُرية » بضم الذال وقرأ زيد بن ثابت والضحاك ، «ذِرية » بكسر الذال ، وقوله تعالى : { بعضها من بعض } أي في الإيمان والطاعة وإنعام الله عليهم بالنبوة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.