{ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }
يخبر تعالى باختيار من اختاره من أوليائه وأصفيائه وأحبابه ، فأخبر أنه اصطفى آدم ، أي : اختاره على سائر المخلوقات ، فخلقه بيده ونفخ فيه من روحه ، وأمر الملائكة بالسجود له ، وأسكنه جنته ، وأعطاه من العلم والحلم والفضل ما فاق به سائر المخلوقات ، ولهذا فضل بنيه ، فقال تعالى :
{ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا }
واصطفى نوحا فجعله أول رسول إلى أهل الأرض حين عبدت الأوثان ، ووفقه من الصبر والاحتمال والشكر والدعوة إلى الله في جميع الأوقات ما أوجب اصطفاءه واجتباءه ، وأغرق الله أهل الأرض بدعوته ، ونجاه ومن{[156]} معه في الفلك المشحون ، وجعل ذريته هم الباقين ، وترك عليه ثناء يذكر في جميع الأحيان والأزمان .
واصطفى آل إبراهيم وهو إبراهيم خليل الرحمن الذي اختصه الله بخلته ، وبذل نفسه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان ، ودعا إلى ربه ليلا ونهارا وسرا وجهارا ، وجعله الله أسوة يقتدي به من بعده ، وجعل في ذريته النبوة والكتاب ، ويدخل في آل إبراهيم جميع الأنبياء الذين بعثوا من بعده لأنهم من ذريته ، وقد خصهم بأنواع الفضائل ما كانوا به صفوة على العالمين ، ومنهم سيد ولد آدم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى جمع فيه من الكمال ما تفرق في غيره ، وفاق صلى الله عليه وسلم الأولين والآخرين ، فكان سيد المرسلين المصطفى من ولد إبراهيم .
واصطفى الله آل عمران وهو والد مريم بنت عمران ، أو والد موسى بن عمران عليه السلام ، فهذه البيوت التي ذكرها الله هي صفوته من العالمين .
والأن نأخذ في استعراض النصوص تفصيلا .
يبدأ هذا القصص ببيان من اصطفاهم الله من عباده واختارهم لحمل الرسالة الواحدة بالدين الواحد منذ بدء الخليقة ، ليكونوا طلائع الموكب الإيماني في شتى مراحله المتصلة على مدار الأجيال والقرون . فيقرر أنهم ذرية بعضها من بعض . وليس من الضروري أن تكون ذرية النسب - وإن كان نسب الجميع يلتقي في آدم ونوح - فهي أولا رابطة الاصطفاء والاختيار الإلهي ؛ ونسب هذه العقيدة الموصول في ذلك الموكب الإيماني الكريم :
( إن الله اصطفى آدم ونوحا ، وآل إبراهيم وآل عمران ، على العالمين ) .
يخبر تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض ، فاصطفى آدم ، عليه السلام ، خلقه بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وأسجد له ملائكته ، وعلمه أسماء كل شيء ، وأسكنه الجنة ثم أهبطه منها ، لما له في ذلك من الحكمة .
واصطفى نوحا ، عليه السلام ، وجعله أول رسول [ بعثه ]{[4947]} إلى أهل الأرض ، لما عبد الناس الأوثان ، وأشركوا في دين الله ما لم ينزل به سلطانا ، وانتقم له لما طالت مدته بين ظَهْرَاني قومه ، يدعوهم إلى الله ليلا ونهارًا ، سرا وجهارًا ، فلم يزدهم ذلك إلا فرارًا ، فدعا عليهم ، فأغرقهم الله عن آخرهم ، ولم يَنْجُ منهم إلا من اتبعه على دينه الذي بعثه الله به .
واصطفى آل إبراهيم ، ومنهم : سيد البشر وخاتم الأنبياء على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم ، وآل عمران ، والمراد بعمران هذا : هو والد مريم بنت عمران ، أم عيسى ابن مريم ، عليهم السلام . قال محمد بن إسحاق بن يَسار{[4948]} رحمه الله : هو عمران بن ياشم بن أمون بن ميشا بن حزقيا بن أحريق بن يوثم بن عزاريا{[4949]} ابن أمصيا بن ياوش بن أجريهو بن يازم بن يهفاشاط بن إنشا بن أبيان{[4950]} بن رخيعم بن سليمان بن داود ، عليهما السلام . فعيسى ، عليه السلام ، من ذرية إبراهيم ، كما سيأتي بيانه في سورة الأنعام ، إن شاء الله وبه الثقة .
لما مضى صدر من محاجة نصارى نجران والرد عليهم وبيان فساد ما هم عليه جاءت هذه الآية معلمة بصورة الأمر الذي قد ضلوا فيه ، ومنبئة عن حقيقته كيف كانت ، فبدأ تعالى بذكر فضله على هذه الجملة التى { آل عمران } منها ثم خص { امرأة عمران } بالذكر لأن القصد وصف قصة القوم إلى أن يبين أمر عيسى عليه السلام وكيف كان و{ اصطفى } معناه : اختار صفو الناس فكان ذلك هؤلاء المذكورين وبقي الكفار كدراً ، و{ آدم } هو أبونا عليه السلام اصطفاه الله تعالى بالإيجاد والرسالة إلى بنيه والنبوة والتكليم حسبما ورد في الحديث{[3096]} وحكى الزجاج عن قوم { إن الله اصطفى آدم } عليه السلام بالرسالة إلى الملائكة في قوله : { أنبئهم بأسمائهم }{[3097]} وهذا ضعيف ، ونوح عليه السلام هو أبونا الأصغر في قول الجمهور هو أول نبي بعث إلى الكفار ، وانصرف نوح مع عجمته وتعريفه لخفة الاسم ، كهود ولوط ، و{ آل إبراهيم } يعني بإبراهيم الخليل عليه السلام والآل في اللغة ، الأهل والقرابة ، ويقال للأتباع وأهل الطاعة آل ، فمنه آل فرعون ، ومنه قول الشاعر وهو أراكة الثقفي في رثاء النبي عليه السلام وهو يعزي نفسه في أخيه عمرو{[3098]} : [ الطويل ]
فَلاَ تَبْكِ مَيْتاً بَعْدَ مَيْتٍ أَجنَّهُ . . . عليٌّ وَعَبَّاسٌ وآلُ أبي بَكْرِ
أراد جميع المؤمنين ، و «الآل » في هذه الآية يحتمل الوجهين ، فإذا قلنا أراد بالآل القرابة والبيتية فالتقدير { إن الله اصطفى } هؤلاء على عالمي زمانهم أو على العالمين عاماً يقدر محمداً عليه السلام من آل إبراهيم ، وإن قلنا أرد بالآل الأتباع فيستقيم دخول أمة محمد في الآل لأنها على ملة إبراهيم ، وذهب منذر بن سعيد وغيره إلى أن ذكر آدم يتضمن الإشارة إلى المؤمنين به من بنيه وكذلك ذكر نوح عليه السلام وأن «الآل » الأتباع فعمت الآية جميع مؤمني العالم فكان المعنى ، أن الله اصطفى المؤمنين على الكافرين ، وخص هؤلاء بالذكر تشريفاً لهم ولأن الكلام في قصة بعضهم ، و{ آل عمران } أيضاً يحتمل من التأويل ما تقدم في { آل إبراهيم } ، وعمران هو رجل من بني إسرائيل من ولد سليمان بن داود فيما حكى الطبري ، قال مكي : هو عمران بن ماثال{[3099]} ، وقال قتادة في تفسير هذه الآية : ذكر الله تعالى أهل بيتين صالحين ورجلين صالحين ، ففضلهم على العالمين فكان محمد من آل إبراهيم ، وقال ابن عباس : «اصطفى الله » هذه الجملة بالدين والنبوة والطاعة له .