ثم قال : { فَمَا يُكَذِّبُكَ } يعني : يا ابن آدم { بَعْدُ بِالدِّينِ } ؟ أي : بالجزاء في المعاد وقد علمت البدأة ، وعرفت أن من قدر على البدأة ، فهو قادر على الرجعة بطريق الأولى ، فأي شيء يحملك على التكذيب بالمعاد وقد عرفت هذا ؟
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن ، عن سفيان ، عن منصور قال : قلت لمجاهد : { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ } عنى به النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : مَعَاذ الله ! عنى به الإنسان . وهكذا قال عكرمة وغيره .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بِالدّينِ * أَلَيْسَ اللّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ ) فقال بعضهم معناه : فمن يكذّبك يا محمد بعد هذه الحجج التي احتججنا بها ، بالدين ، يعني : بطاعة الله ، وما بعثك به من الحقّ ، وأن الله يبعث من في القبور ؟ قالوا : «ما » في معنى «مَنْ » ، لأنه عُني به ابن آدم ، ومن بعث إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فما يكذّبك أيها الإنسان بعد هذه الحجج بالدين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، قال : قلت لمجاهد : ( فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بِالدّينِ ) عُني به النبيّ صلى الله عليه وسلم ؟ قال : مَعاذ الله ، عُني به الإنسان .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عمن سمع مجاهدا يقول : فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بِالدّينِ قلت : يعني به النبيّ صلى الله عليه وسلم ؟ قال : مَعاذ الله ، إنما يعني به الإنسان .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ( فَمَا يُكذّبُكَ بَعْدُ بِالدّينِ ) أَعُنِي به النبيّ صلى الله عليه وسلم ؟ قال : معاذ الله ، إنما عُني به الإنسان .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الكلبيّ ( فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بِالدّينِ ) إنما يعني الإنسان ، يقول : خلقتك في أحسن تقويم ، فما يكذّبك أيها الإنسان بعد بالدين ؟
وقال آخرون : إنما عُنِي بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل له : استيقن مع ما جاءك من الله من البيان ، أن الله أحكم الحاكمين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بِالدّينِ ) أي استيقِن بعد ما جاءك من الله البيانُ ، ألَيْسَ اللّهَ بِأحْكَمِ الْحاكِمِينَ ؟ .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : معنى «ما » معنى «مَنْ » . ووجه تأويل الكلام إلى : فمن يكذّبك يا محمد بعد الذي جاءك من هذا البيان من الله بالدين ؟ يعني : بطاعة الله ، ومجازاته العباد على أعمالهم . وقد تأوّل ذلك بعض أهل العربية بمعنى : فما الذي يكذّبك بأن الناس يدانون بأعمالهم ؟ وكأنه قال : فمن يقدر على تكذيبك بالثواب والعقاب ، بعد ما تبين له خلقنا الإنسان على ما وصفنا .
واختلفوا في معنى قوله : بالدّين فقال بعضهم : بالحساب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عبد الرحمن بن الأسود الطّفَاوي ، قال : حدثنا محمد بن ربيعة ، عن النضر بن عربيّ ، عن عكرِمة ، في قوله : فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بِالدّينِ قال : الحساب .
وقال آخرون : معناه : بحكم الله . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بِالدّينِ ) يقول : ما يكذّبك بحكم الله .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : الدين في هذا الموضع : الجزاء والحساب ، وذلك أن أحد معاني الدين في كلام العرب : الجزاء والحساب ، ومنه قولهم : كما تدين تُدان . ولا أعرف من معاني الدين «الحكم » في كلامهم ، إلا أن يكون مرادا بذلك : فما يكذّبك بعد بأمر الله الذي حكم به عليك أن تطيعه فيه ؟ فيكون ذلك .
تفريع على جميع ما ذكر من تقويم خلق الإنسان ثم رده أسفل سافلين ، لأن ما بعد الفاء من الكلام مسبّب عن البيان الذي قبل الفاء ، أي فقد بان لك أن غير الذين آمنوا هم الذين رُدُّوا إلى أسفل سافلين ، فمن يكذب منهم بالدين الحق بعد هذا البيان .
و ( مَا ) يَجوز أن تكون استفهامية ، والاستفهام توبيخي ، والخطاب للإِنسان المذكور في قوله : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } [ التين : 4 ] فإنه بعد أن استثني منه الذين آمنوا بقي الإِنسان المكذب .
وضمير الخطاب التفات ، ومقتضى الظاهر أن يقال : فما يكذبه . ونكتة الالتفات هنا أنه أصرح في مواجهة الإِنسان المكذب بالتوبيخ .
ومعنى { يكذبك } يَجعلك مُكذباً ، أي لا عذر لك في تكذيبك بالدين .
ومتعلق التكذيب : إمَّا محذوف لظهوره ، أي يجعلك مكذّباً بالرسول صلى الله عليه وسلم وأمّا المجرور بالباء ، أي يجعلك مكذباً بدين الإِسلام ، أو مكذباً بالجزاء إن حمل الدين على معنى الجزاء وجملة : { أليس الله بأحكم الحاكمين } مستأنفة للتهديد والوعيد .
و { الدين } يجوز أن يكون بمعنى الملة والشريعة ، كقوله تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] وقوله : { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً } [ آل عمران : 85 ] .
وعليه تكون الباء للسببية ، أي فمن يكذبك بعد هذا بسبب ما جئتَ به من الدين فالله يحكم فيه . ومعنى { يكذبك } : ينسبك للكذب بسبب ما جئت به من الدين أو ما أنذرت به من الجزاء ، وأسلوب هذا التركيب مؤذن بأنهم لم يكونوا ينسبون النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكذب قبل أن يجيئهم بهذا الدين .
ويجوز أن يكون « الدين » بمعنى الجزاء في الآخرة كقوله : { مالك يوم الدين } [ الفاتحة : 4 ] وقوله : { يصلونها يوم الدين } [ الانفطار : 15 ] وتكون الباء صلة ( يكذب ) كقوله : { وكذب به قومك وهو الحق } [ الأنعام : 66 ] وقوله : { قل إني على بينة من ربي وكذبتم به } [ الأنعام : 57 ] .
ويجوز أن تكون ( ما ) موصولة وما صدْقُها المكذب ، فهي بمعنى ( مَن ) ، وهي في محل مبتدإ ، والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والضمير المستتر في { يكذبك } عائد إلى ( مَا ) وهو الرابط للصلة بالموصول ، والباء للسببية ، أي ينسبك إلى الكذب بسبب ما جئت به من الإِسلام أو من إثبات البعث والجزاء .
وحذف ما أضيف إليه { بعدُ } فبنيت بعدُ على الضم والتقدير : بعدَ تبيُّن الحق أو بعد تبيُّن ما ارتضاه لنفسه من أسفل سافلين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.