التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعۡدُ بِٱلدِّينِ} (7)

بسم الله الرحمان الرحيم

{ والتين والزيتون( 1 ) وطور سنين1 ( 2 ) وهذا البلد الأمين2 ( 3 ) لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم3 ( 4 ) ثم رددناه أسفل سافلين( 5 ) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون( 6 ) فما يكذبك بعد بالدين( 7 ) أليس الله بأحكم الحاكمين( 8 ) } [ 1-8 ] .

في السورة قسم رباني بأن الله قد خلق الإنسان في أحسن تكوين وأقومه وأتمه بما أودعه الله فيه من مواهب وقوى ، ثم رده إلى أسفل سافلين ، باستثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات الذين لهم عنده الأجر الدائم . وانتهت آياتها بسؤال استنكاري عن السبب الذي يحمل الناس على التكذيب بالجزاء الأخروي بعد هذا البرهان وبجواب رباني بأسلوب السؤال بأن الله هو أحكم الحاكمين وأن صفته هذه تقتضي ذلك الجزاء .

ولقد تعددت الأقوال المعزوة إلى ابن عباس وعلماء التابعين كالحسن وعكرمة ومقاتل ومجاهد وعطاء .

أولا : في مدلول { والتين والزيتون } ، حيث قيل : إنهما الثمرتان بذاتهما ، وقد أقسم الله بهما لكثرة منافعهما . وحيث قيل : إن التين جبل أو مسجد في دمشق والزيتون جبل أو مسجد في بيت المقدس . وحيث قيل : إن المقصود منابتهما في دمشق وبيت المقدس على اعتبار أنهما قد اشتهرا بهما . ولاحظ بعض المفسرين أن طور سينين مهبط وحي موسى عليه السلام ، والبلد الأمين مهبط وحي محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن فلسطين كانت مشهورة بكروم زيتونها وتينها وهي مهبط وحي عيسى عليه السلام ، وأن التساوق يقضي أن يكون المقصود هو فلسطين المشهورة بتينها وزيتونها . وفي هذا وجاهة ظاهرة{[2433]} .

ثانيا : في مدلول { أسفل سافلين } حيث قيل : إنها الشيخوخة التي يرتد فيها الإنسان إلى أرذل العمر بعدما كان عليه من القوة العقلية والجسمية . وحيث قيل : إنها النكال الأخروي الذي يكون نصيب المنحرفين عن سبيل الله من الناس . واستثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات يسوغ القول : إنه أريد أن يقال : إن الله عز وجل قد خلق الإنسان على أحسن تقويم عقلي وجسمي وجعله موضع اختبار فمن آمن وعمل صالحا كان له الأجر الذي لا ينقطع من الله ، ومن شذ من ذلك ارتكس إلى أحط الدركات في الدنيا والآخرة .

ونسبة رد الإنسان الشاذ إلى أسفل سافلين إلى الله لاينقص القول : إن الله قد جعله موضع اعتبار ، ورتب ما يستحقه على اختباره على ضوء آيات قرآنية عديدة منها آيات سورة البقرة هذه : { يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين26 الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون27 } .

أما الآيتان الأخريان فهما نتيجة للمقدمة أو البرهان الذي احتوته الآية الرابعة وهو خلق الله الإنسان في أحسن تقويم . والبرهان مستحكم في السامعين ؛ لأنهم يؤمنون به على ما حكته عنهم آيات عديدة منها آية سورة يونس هذه : { قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون31 } وآية سورة الزخرف هذه : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم9 } وآية سورة الزخرف هذه أيضا : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون87 } والسورة كما هو ظاهر من نوع السور العامة المبشرة المنذرة ، وهي قريبة المدى إلى سورة العصر .

ولقد قلنا في التعريف : إن { البلد الآمين } هي مكة التي جعلها الله أمانا للناس وحرم سفك الدم فيها . وفي سورة النمل جملة فيها هذا المعنى صريح أكثر وهي : { إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها } [ 91 ] واسم مكة ورد في آية سورة الفتح هذه : { وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم } [ 24 ] وفي القرآن اسم آخر لمكة وهو بكة وقد ورد في آية سورة آل عمران هذه : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين96 } .

وسنزيد مسألة أمن مكة وحرمها شرحا في سياق تفسير سورة قريش التي تأتي بعد هذه السورة .


[2433]:- انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي والخازن والقاسمي. ولقد ذكرت أقوال أخرى فيها غرابة تركناها واكتفينا بما هو وارد ومشهور. وفي صدد شهرة فلسطين بكرومها منذ القديم وردت في الإصحاح السادس من سفر التثنية من أسفار العهد القديم المتداولة هذه العبارة في وصف أرض كنعان [مدن عظيمة لم تبنها وبيوت مملوءة خيرا لم تملأها وكروما وزيتونا لم تغرسها] وفي كتاب التفسير والمفسرون للذهبي أن بعض مفسري الشيعة أولوا كلمة [الزيتون] بعلي وبعضهم بالحسين رضي الله عنهما. [جـ 2 ص 69 و 70] وهذا من غرائب تأويلاتهم.