محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعۡدُ بِٱلدِّينِ} (7)

{ فما يكذبك بعد بالدين } يعني بعد هذه الحجج ، ومحال أن يحتج على قوم كانوا منكرين معنى من المعاني بما كانوا له منكرين ، وإنما الحجة على كل قوم بما لا يقدرون على دفعه مما يعاينونه ويحسونه أو يقرون به ، وإن لم يكونوا له محسين ، وإذ كان ذلك كذلك وكان القوم للنار التي كان الله يتوعدهم بها في الآخرة منكرين ، وكانوا أهل الهرم والخوف من بعد الشباب والجلد شاهدين ، علم أنه إنما احتج عليهم بما كانوا له معاينين من تصريفه خلقه ونقله إياهم من حال التقويم الحسن والثياب والجلد إلى الهرم والضعف وفناء العمر وحدوث الخرف انتهى كلامه .

وعليه فيكون الاستثناء منقطعا استدراكا لدفع ما يتوهم من أن التساوي في أرذل العمر يقتضي التساوي في غيره ويكون { الذين } حينئذ مبتدأ والفاء داخلة في خبره ، وأما على الوجه الأول فالفاء للتفريع ، ومدخولها جملة مترتبة عليه ومؤكدة له . قوله تعالى :{ فما يكذبك بعد بالدين } خطاب للإنسان على طريق الالتفات لتشديد التوبيخ والتبكيت ، أي فما يحملك على التكذيب بالدين أي الجزاء بعد البعث وإنكاره بعد هذه الدلائل ، والمعنى : إن خلق الإنسان من نطفة ، وتقويمه بشرا سويا ، وتحويله من حال إلى حال كمالا ونقصانا من أوضح الدلائل على قدرة الله عز وجل على البعث والجزاء ، فأي شيء يضطرك إلى التكذيب به ؟ وجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ومعنى { يكذبك } إما ينسبك إلى الكذب ( كفسقته إذا قلت له إنه فاسق ) والباء في { بالدين } بمعنى ( في ) أي يكذبك في إخبارك به ، أو سببية أي بسبب إخبارك به وإثباته ، أو المعنى ما يجعلك مكذبا بالدين ، على أن الباء صلته ، وهو من باب الإلهاب والتعريض بالمكذبين ، والمعنى : إنه لا يكذبك شيء ما بعد هذا البيان بالدين لا كهؤلاء الذين لا يبالون بآيات الله ولا يرفعون لها رأسا ، والاستفهام للإنكار والتعجب . واستصوب ابن جرير{[7515]} قول من قال : ( ما ) بمعنى ( من ) ، أي فمن يكذبك يا محمد بعد الذي جاءك من هذا البيان من الله بالدين ؟

قال الشهاب : ( فما ) استفهام عمن يعقل ، وفيه نظر ؛ لأنه خلاف المعروف ، فلا يرتكب مع صحة بقائها على أصلها كما بيناه لك ، والداعي لارتكاب هذا أن المعنى عليه أظهر إذا كان المخاطب النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه إنكار توبيخي للمكذبين له صلى الله عليه وسلم بعد ما ظهر لهم من دلائل صدقه وصحة مدعاه .


[7515]:انظر الصفحة رقم 249 من الجزء الثلاثين (طبعة الحلبي الثانية).