الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعۡدُ بِٱلدِّينِ} (7)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : "فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ"؛

فقال بعضهم معناه : فمن يكذّبك يا محمد بعد هذه الحجج التي احتججنا بها ، بالدين ، يعني : بطاعة الله ، وما بعثك به من الحقّ ، وأن الله يبعث من في القبور ؟ قالوا : «ما » في معنى «مَنْ » ، لأنه عُني به ابن آدم ، ومن بعث إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : فما يكذّبك أيها الإنسان بعد هذه الحجج بالدين ...

وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : معنى «ما » معنى «مَنْ » . ووجه تأويل الكلام إلى : فمن يكذّبك يا محمد بعد الذي جاءك من هذا البيان من الله بالدين ؟ يعني : بطاعة الله ، ومجازاته العباد على أعمالهم ... واختلفوا في معنى قوله : "بالدّين"؛

فقال بعضهم : بالحساب ...

وقال آخرون : معناه : بحكم الله ...

وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : الدين في هذا الموضع : الجزاء والحساب ، وذلك أن أحد معاني الدين في كلام العرب : الجزاء والحساب ، ومنه قولهم : كما تدين تُدان . ولا أعرف من معاني الدين «الحكم » في كلامهم ، إلا أن يكون مرادا بذلك : فما يكذّبك بعد بأمر الله الذي حكم به عليك أن تطيعه فيه ؟ فيكون ذلك .

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

إن كان الخطاب به لكل إنسان كذب بالدين بقوله ، فما الذي دعاك إلى تكذيبك بالدين ، وقد عرفت أن الله أحكم الحاكمين لا يفعل إلا ( ما ) هو حكمة . ولو لم يكن يوم الدين كان فعله عبثا باطلا ، لأنه أنشأكم ، ثم رباكم إلى أن بلغتم . فلو لم يكن بعث لكان يخرج فعله عبثا باطلا ، أو نقول : لما سوى بين ما اختار ولايته وبين ما اختار الولاية في هذه الدنيا ، وفي الحكمة التفريق بينهما ، فلا بد من مكان يفرق بينهما هنالك . وإن كان الخطاب في قوله : { فما يكذبك بعد بالدين } لرسول الله تعالى فيقول : أي حجة له في تكذيبك بما تخبره من الدين ؟ أي لا حجة له في ذلك ، أو نقول : ما الذي دعاه إلى تكذيبه بالدين بعد ما عرف أني أحكم الحاكمين ؟ ...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

من المخاطب به ؟ قلت : هو خطاب للإنسان على طريقة الالتفات ، أي : فما يجعلك كاذباً بسبب الدين وإنكاره بعد هذا الدليل ، يعني أنك تكذب إذا كذبت بالجزاء ، لأنّ كل مكذب بالحق فهو كاذب ، فأيّ شيء يضطرك إلى أن تكون كاذباً بسبب تكذيب الجزاء . والباء مثلها في قوله تعالى : { الذين يَتَوَلَّوْنَهُ والذين هُم به مُّشْرِكُونَ } [ النحل : 100 ] والمعنى : أنّ خلق الإنسان من نطفة ، وتقويمه بشراً سوياً وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوي ، ثم تنكيسه إلى أن يبلغ أرذل العمر، لا ترى دليلاً أوضح منه على قدرة الخالق ، وأن من قدر من الإنسان على هذا كله لم يعجز عن إعادته ، فما سبب تكذيبك أيها الإنسان بالجزاء بعد هذا الدليل القاطع . ...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

... قال جمهور من المتأولين : المخاطب الإنسان الكافر ، أي ما الذي يجعلك كذاباً بالدين ، تجعل له أنداداً ، وتزعم أن لا بعث بعد هذه الدلائل ؟ ...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ فما } أي فتسبب عن إقامة الدليل على تمام القدرة وعلى بغي العبيد بعضهم على بعض أنه يقال لك تصديقاً لك فيما أخبرت به من أن الله سبحانه وتعالى يبعث الخلائق بعد موتهم ليجازي كلاًّ بما عمل ، وإنكاراً على من كذبك : ما { يكذبك } أي أيّ شيء ينسبك إلى الكذب يا أشرف الخلق ، وأكملهم نفساً ، وأتقاهم عرضاً ، وأطهرهم خلقاً وخلقاً ، وعبر ب " ما " إشارة إلى أن الكذب بهذا مع هذا الدليل القطعي الذي تضمنته هذه السورة في عداد ما لا يعقل بل دونه { بعد } أي بعد مشاهدة بغي بعض الناس على بعض استعمالاً لحال النكس ، وأعراه من الجار إشارة إلى أن من آمن قبل الغرغرة واتصل إيمانه ذلك بموته كان ممن له أجر غير ممنون [...]...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وفي ظل هذه الحقيقة ينادى " الإنسان " : ( فما يكذبك بعد بالدين ? أليس الله بأحكم الحاكمين ? ) . . فما يكذبك بالدين بعد هذه الحقيقة ? وبعد إدراك قيمة الإيمان في حياة البشرية ? وبعد تبين مصير الذين لا يؤمنون ، ولا يهتدون بهذا النور ، ولا يمسكون بحبل الله المتين ?...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

تفريع على جميع ما ذكر من تقويم خلق الإنسان ثم رده أسفل سافلين ، لأن ما بعد الفاء من الكلام مسبّب عن البيان الذي قبل الفاء ، أي فقد بان لك أن غير الذين آمنوا هم الذين رُدُّوا إلى أسفل سافلين ، فمن يكذب منهم بالدين الحق بعد هذا البيان .

و ( مَا ) يَجوز أن تكون استفهامية ، والاستفهام توبيخي ، والخطاب للإِنسان المذكور في قوله : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } [ التين : 4 ] فإنه بعد أن استثني منه الذين آمنوا بقي الإِنسان المكذب .

وضمير الخطاب التفات ، ومقتضى الظاهر أن يقال : فما يكذبه . ونكتة الالتفات هنا أنه أصرح في مواجهة الإِنسان المكذب بالتوبيخ .

ومعنى { يكذبك } يَجعلك مُكذباً ، أي لا عذر لك في تكذيبك بالدين .

ومتعلق التكذيب : إمَّا محذوف لظهوره ، أي يجعلك مكذّباً بالرسول صلى الله عليه وسلم وأمّا المجرور بالباء ، أي يجعلك مكذباً بدين الإِسلام ، أو مكذباً بالجزاء إن حمل الدين على معنى الجزاء وجملة : { أليس الله بأحكم الحاكمين } مستأنفة للتهديد والوعيد .

و { الدين } يجوز أن يكون بمعنى الملة والشريعة ، كقوله تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] وقوله : { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً } [ آل عمران : 85 ] .

وعليه تكون الباء للسببية ، أي فمن يكذبك بعد هذا بسبب ما جئتَ به من الدين فالله يحكم فيه . ومعنى { يكذبك } : ينسبك للكذب بسبب ما جئت به من الدين أو ما أنذرت به من الجزاء ، وأسلوب هذا التركيب مؤذن بأنهم لم يكونوا ينسبون النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكذب قبل أن يجيئهم بهذا الدين .

ويجوز أن يكون « الدين » بمعنى الجزاء في الآخرة كقوله : { مالك يوم الدين } [ الفاتحة : 4 ] وقوله : { يصلونها يوم الدين } [ الانفطار : 15 ] وتكون الباء صلة ( يكذب ) كقوله : { وكذب به قومك وهو الحق } [ الأنعام : 66 ] وقوله : { قل إني على بينة من ربي وكذبتم به } [ الأنعام : 57 ] .

ويجوز أن تكون ( ما ) موصولة وما صدْقُها المكذب ، فهي بمعنى ( مَن ) ، وهي في محل مبتدإ ، والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والضمير المستتر في { يكذبك } عائد إلى ( مَا ) وهو الرابط للصلة بالموصول ، والباء للسببية ، أي ينسبك إلى الكذب بسبب ما جئت به من الإِسلام أو من إثبات البعث والجزاء .