المراد بالخوض في آيات الله : التكلم بما يخالف الحق ، من تحسين المقالات الباطلة ، والدعوة إليها ، ومدح أهلها ، والإعراض عن الحق ، والقدح فيه وفي أهله ، فأمر الله رسوله أصلا ، وأمته تبعا ، إذا رأوا من يخوض بآيات الله بشيء مما ذكر ، بالإعراض عنهم ، وعدم حضور مجالس الخائضين بالباطل ، والاستمرار على ذلك ، حتى يكون البحث والخوض في كلام غيره ، فإذا كان في كلام غيره ، زال النهي المذكور .
فإن كان مصلحة كان مأمورا به ، وإن كان غير ذلك ، كان غير مفيد ولا مأمور به ، وفي ذم الخوض بالباطل ، حث على البحث ، والنظر ، والمناظرة بالحق . ثم قال : { وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ } أي : بأن جلست معهم ، على وجه النسيان والغفلة . { فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } يشمل الخائضين بالباطل ، وكل متكلم بمحرم ، أو فاعل لمحرم ، فإنه يحرم الجلوس والحضور عند حضور المنكر ، الذي لا يقدر على إزالته .
هذا النهي والتحريم ، لمن جلس معهم ، ولم يستعمل تقوى الله ، بأن كان يشاركهم في القول والعمل المحرم ، أو يسكت عنهم ، وعن الإنكار ، فإن استعمل تقوى الله تعالى ، بأن كان يأمرهم بالخير ، وينهاهم عن الشر والكلام الذي يصدر منهم ، فيترتب على ذلك زوال الشر أو تخفيفه ، فهذا ليس عليه حرج ولا إثم ، ولهذا قال :
فإذا أنهى إليهم هذا البلاغ ، وإذا واجه تكذيبهم بهذه المفاصلة . . فإنه [ ص ] مأمور بعد ذلك ألا يجالسهم - حتى للبلاغ والتذكير - إذا رآهم يخوضون في آيات الله بغير توقير ؛ ويتحدثون عن الدين بغير ما ينبغي للدين من الجد والمهابة ؛ ويجعلون الدين موضعا للعب واللهو ؛ بالقول أو بالفعل ؛ حتى لا تكون مجالسته لهم - وهم على مثل هذه الحال - موافقة ضمنية على ما هم فيه ؛ أو قلة غيرة على الدين الذي لا يغار المسلم على حرمة كما يغار عليه . فإذا أنساه الشيطان فجلس معهم ، ثم تذكر ، قام من فوره وفارق مجلسهم :
( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره . وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ) . .
ولقد كان هذا الأمر للرسول [ ص ] ويمكن في حدود النص أن يكون أمرا لمن وراءه من المسلمين . . كان هذا الأمر في مكة . حيث كان عمل الرسول [ ص ] يقف عند حدود الدعوة . وحيث كان غير مأمور بقتال للحكمة التي أرادها الله في هذه الفترة . وحيث كان الاتجاه واضحا لعدم الاصطدام بالمشركين ما أمكن . . فكان هذا الأمر بألا يجلس النبي [ ص ] في مجالس المشركين ؛ متى رآهم يخوضون في آيات الله ويذكرون دينه بغير توقير ، والمسارعة إلى ترك هذه المجالس - لو أنساه الشيطان - بمجرد أن يتذكر أمر الله ونهيه . وكان المسلمون كذلك مأمورين بهذا الأمر كما تقول بعض الروايات . . والقوم الظالمون ، المقصود بهم هنا القوم المشركون . كما هو التعبير الغالب في القرآن الكريم . .
فأما بعد أن قامت للإسلام دولة في المدينة ، فكان للنبي [ ص ] شأن آخر مع المشركين . وكان الجهاد والقتال حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله . حيث لا يجترى ء أحد على الخوض في آيات الله !
ثم قال : { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا } أي : بالتكذيب والاستهزاء { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } أي : حتى يأخذوا في كلام آخر غير ما كانوا فيه{[10829]} من التكذيب ، { وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ } والمراد بهذا كلّ فرد ، فرد من آحاد الأمة ، ألا يجلس مع المكذبين الذين يحرفون آيات الله ويضعونها على غير مواضعها ، فإن جلس أحد معهم ناسيًا { فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى } بعد التذكر { مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
ولهذا ورد في الحديث : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " {[10830]}
وقال السُّدِّي ، عن أبي مالك وسعيد بن جُبَيْر في قوله : { وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ } قال : إن نسيت فذكرت ، فلا تجلس معهم . وكذا قال مقاتل بن حيان .
وهذه الآية هي المشار إليها في قوله : { وَقَدْ نزلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ } الآية [ النساء : 140 ] أي : إنكم إذا جلستم معهم وأقررتموهم على ذلك ، فقد ساويتموهم في الذي هم فيه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَيْتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِيَ آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّىَ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمّا يُنسِيَنّكَ الشّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذّكْرَىَ مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وإذَا رأيْتَ يا محمد المشركين الّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنَا التي أنزلناها إليك ، ووحيْنا الذي أوحيناه إليك ، و «خوضهم فيها » كان استهزاءهم بها وسَبّهم من أنزلها وتكلم بها وتكذيبهم بها . فأعْرِضْ عَنْهُمْ يقول : فصُدّ عنهم بوجهك ، وقم عنهم ولا تجلس معهم ، حتى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غيرِهِ يقول : حتى يأخذوا في حديث غير الاستهزاء بآيات الله من حديثهم بينهم . وإمّا يُنْسِيَنّكَ الشّيْطَانُ يقوله : وإن أنساك الشيطان نَهيْنا إياك عن الجلوس معهم والإعراض عنهم في حال خوصهم في آياتنا ثم ذكرت ذلك ، فقهم عنهم ولا تقعد بعد ذكرك ذلك مع القوم الظالمين الذين خاضوا في غير الذي لهم الخوض فيه لما خاضوا به فيه وذلك هو معنى ظلمهم في هذا الموضع .
وينحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : وإذَا رأيْتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنَا فأعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غيرِهِ قال : نهاه الله أن يجلس مع الذين يخوضون في آيات الله يكذّبون بها ، فإن نسي فلا يقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن السديّ ، عن أبي مالك وسعيد بن جبير ، في قوله : وإذَا رأيْتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنَا قال : الذين يكذبون بآياتنا .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وإذَا رأيْتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنَا فأعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غيرِهِ وإمّا يُنْسِيَنّكَ الشّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظّالِمينَ قال : كان المشركون إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن فسبّوه واستهزءوا به ، فأمرهم الله أن لا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره .
: وإمّا يُنْسِيَنّكَ الشّيْطَانُ يقول : نَسِيتَ فتقعد معهم ، فإذا ذكرت فقم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يخُوضُونَ فِي آياتِنَا قال : يكذّبون بآياتنا .
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا فُضيل بن عياض ، عن ليث ، عن أبي جعفر ، قال لا تجالسوا أهل الخصومات ، فإنهم الذين يخوضون في آيات الله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وإذَا رأيْتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنَا ، وقوله : الّذِينَ فَرّقُوا دِينَهُمْ وكَانُوا شِيَعا ، وقوله : وَلاَ تَكُونُوا كالّذِينَ تَفَرّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ البَيّناتُ ، وقوله : أنْ أقِيمُوا الدّينَ وَلا تَتَفَرّقُوا فِيه ، ونحو هذا في القرآن قال : أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفُرْقة ، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمِراء والخصومات في دين الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : وإذَا رأيْتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنَا قال : يستهزءون بها . قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقعد معهم إلا أن ينسى فإذا ذكر فليقم . فذلك قوله : وإذَا رأيْتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنَا فأعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غيرِهِ وإمّا يُنْسِيَنّكَ الشّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظّالِمينَ . قال ابن جريج : كان المشركون يجلسون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يُحبّون أن يسمعوا منه ، فإذا سمعوا استهزءوا فنوزلت : وإذَا رأيْتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنَا فأعْرِضْ عَنْهُمْ . . . الاَية .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : وإذَا رأيْتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنَا قال : يكذّبون .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي مالك ، قوله : وإذَا رأيْتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنَا فأعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غيرِهِ يعني : المشركين . وإمّا يُنْسِيَنّكَ الشّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظّالِمينَ إن نسيت فَذَكَرت فلا تجلس معهم .
لفظ هذا الخطاب مجرد للنبي صلى الله عليه وسلم وحده ، واختلف في معناه فقيل إن المؤمنين داخلون في الخطاب معه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الصحيح ، لأن علة النهي وهي سماع الخوض في آيات الله تشملهم وإياه ، وقيل : بل المعنى أيضاً أريد به النبي صلى الله عليه وسلم وحده ، لأن قيامه عن المشركين كان يشق عليهم وفراقه لهم على معارضته وإن لم يكن المؤمنون عندهم كذلك ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينابذهم بالقيام عنهم إذا استهزؤوا وخاضوا ليتأدبوا بذلك ويدعوا الخوض والاستهزاء ، وهذا التأويل يتركب على كلام ابن جرير يرحمه الله . والخوض أصله في الماء ثم يستعمل بعد في غمرات الأشياء التي هي مجاهل تشبيهاً بغمرات الماء ، { وإما } شرط وتلزمها النون الثقيلة في الأغلب ، وقد لا تلزم كما قال :
إمَّا يُصِبْكَ عَدُوٌّ في مُنَاوَأةٍ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[4954]}
إلى غير ذلك من الأمثلة ، وقرأ ابن عامر وحده{[4955]} «ينسّينك » بتشديد السين وفتح النون والمعنى واحد ، إلا أن التشديد أكثر مبالغة{[4956]} .
و { الذكرى } والذكر واحد في المعنى وإنما هو تأنيث لفظي ، ووضفهم هنا ب { الظالمين } متمكن لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه ، و { أعرض } في هذه الآية بمعنى المفارقة على حقيقة الإعراض وأكمل وجوهه ، ويدل على ذلك { فلا تقعد } .