{ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا ْ } أي : غيبوه عن أبيه في أرض بعيدة لا يتمكن من رؤيته فيها .
فإنكم إذا فعلتم أحد هذين الأمرين { يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ْ } أي : يتفرغ لكم ، ويقبل عليكم بالشفقة والمحبة ، فإنه قد اشتغل قلبه بيوسف شغلا لا يتفرغ لكم ، { وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ ْ } أي : من بعد هذا الصنيع { قَوْمًا صَالِحِينَ ْ } أي : تتوبون إلى الله ، وتستغفرون من بعد ذنبكم .
فقدموا العزم على التوبة قبل صدور الذنب منهم تسهيلا لفعله ، وإزالة لشناعته ، وتنشيطا من بعضهم لبعض .
ثُم يغلي الحقد ويدخل الشيطان ، فيختل تقديرهم للوقائع ، وتتضخم في حسهم أشياء صغيرة ، وتهون أحداث ضخام . تهون الفعلة الشنعاء المتمثلة في إزهاق روح . روح غلام بريء لا يملك دفعا عن نفسه ، وهو لهم أخ . وهم أبناء نبي - وإن لم يكونوا هم أنبياء - يهون هذا . وتضخم في أعينهم حكاية إيثار أبيهم له بالحب . حتى توازي القتل . أكبر جرائم الأرض قاطبة بعد الشرك بالله :
( اقتلوا يوسف . أو اطرحوه أرضا ) . .
وهما قريب من قريب . فطرحه في أرض نائية مقطوعة مفض في الغلب إلى الموت . . ولماذا ؟
فلا يحجبه يوسف . وهم يريدون قلبه . كأنه حين لا يراه في وجهه يصبح قلبه خاليا من حبه ، ويتوجه بهذا الحب إلى الآخرين ! والجريمة ؟ الجريمة تتوبون عنها وتصلحون ما أفسدتم بارتكابها :
( وتكونوا من بعده قوما صالحين ) ! . .
هكذا ينزغ الشيطان ، وهكذا يسول للنفوس عندما تغضب وتفقد زمامها ، وتفقد صحة تقديرها للأشياء والأحداث . وهكذا لما غلا في صدورهم الحقد برز الشيطان ليقول لهم : اقتلوا . . والتوبة بعد ذلك تصلح ما فات ! وليست التوبة هكذا . إنما تكون التوبة من الخطيئة التي يندفع إليها المرء غافلا جاهلا غير ذاكر ؛ حتى إذا تذكر ندم ، وجاشت نفسه بالتوبة . أما التوبة الجاهزة ! التوبة التي تعد سلفا قبل ارتكاب الجريمة لإزالة معالم الجريمة ، فليست بالتوبة ، إنما هي تبرير لارتكاب الجريمة يزينه الشيطان !
{ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } يقولون : هذا الذي يزاحمكم في محبة أبيكم لكم ، أعدموه من وجه أبيكم ، ليخلو لكم وحدكم ، إما بأن تقتلوه ، أو تلقوه في أرض من الأراضي - تستريحوا منه ، وتختلوا أنتم بأبيكم ، وتكونوا من{[15069]} بعد إعدامه قوما صالحين . فأضمروا التوبة قبل الذنب .
القول في تأويل قوله تعالى : { اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ } .
يقول جلّ ثناؤه : قال إخوة يوسف بعضهم لبعض : { اقتلوا يوسف أو اطرحوه } في أرض من الأرض ، يعنون : مكانا من الأرض . { يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أبِيكُمْ } ، يعنون : يخل لكم وجه أبيكم من شغله بيوسف ، فإنه قد شغله عنا وصرف وجهه عنا إليه . { وتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْما صَالِحِينَ } ، يعنون : إنهم يتوبون من قتلهم يوسف وذنبهم الذي يركبونه فيه ، فيكونون بتوبتهم من قتله من بعد هلاك يوسف قوما صالحين .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السديّ : { اقْتُلُوا يُوسُفَ أوِ اطْرَحُوهُ أرْضا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْما صَالِحِينَ } ، قال : تتوبون مما صنعتم ، أو من صنيعكم .
{ اقتلوا يوسف } من جملة المحكي بعد قوله إذ قالوا كأنهم اتفقوا على ذلك الأمر إلا من قال " لا تقتلوا يوسف " . وقيل إنما قاله شمعون أو دان ورضي به الآخرون . { أو اطرحوه أرضا } منكورة بعيدة من العمران ، وهو معنى تنكيرها وإبهامها ولذلك نصبت كالظروف المبهمة . { يخلُ لكم وجه أبيكم } جواب الأمر والمعنى يصف لكم وجه أبيكم فيقبل بكليته عليكم ولا يلتفت عنكم إلى غيركم ولا ينازعكم في محبته أحد . { وتكونوا } جزم بالعطف على { يخل } أو نصب بإضمار أن . { من بعده } من بعد يوسف أو الفراغ من أمره أو قتله أو طرحه . { قوما صالحين } تائبين إلى الله تعالى عما جنيتم أو صالحين مع أبيكم بصلح ما بينكم وبينه بعذر تمهدونه ، أو صالحين في أمر دنياكم فإنه ينتظم لكم بعده بخلو وجه أبيكم .
وقوله : { اقتلوا يوسف } الآية ، كانت هذه مقالة بعضهم . { أو اطرحوه } معناه : أبعدوه ، ومنه قول عروة بن الورد :
ومن يك مثلي ذا عيال ومقتراً*** يغرر ويطرح نفسه كل مطرح{[6569]}
والنوى : الطروح البعيدة ، و { أرضاً } مفعول ثان بإسقاط حرف الجر ، لأن طرح - لا يتعدى إلى مفعولين إلا كذلك . وقالت فرقة : هو نصب على الظرف - وذلك خطأ لأن الظرف ينبغي أن يكون مبهماً وهذه هنا ليست كذلك بل هي أرض مقيدة بأنها بعيدة أو قاصية ونحو ذلك فزال بذلك إبهامها ، ومعلوم أن يوسف لم يخل من الكون في أرض ، فبين أنها أرض بعيدة غير التي هو فيها قريب من أبيه{[6570]} .
وقوله : { يخل لكم وجه أبيكم } استعارة{[6571]} ، أي إذا فقد يوسف رجعت محبته إليكم ، ونحو هذا قول العربي حين أحبته أمه لما قتل إخوته وكانت قبل لا تحبه : الثكل أرأمها{[6572]} ، أي عطفها عليه ، والضمير في { بعده } عائد على يوسف أو قتله أو طرحه ، و { صالحين } قال السدي ومقاتل بن سليمان : إنهم أرادوا صلاح الحال عند أبيهم ، وهذا يشبه أن يكون قصدهم في تلك الحال ولم يكونوا حينئذ أنبياء ، وقال الجمهور : { صالحين } معناه بالتوبة ، وهذا هو الأظهر من اللفظ ، وحالهم أيضاً تعطيه ، لأنهم مؤمنون بثوا على عظيمة وعللوا أنفسهم بالتوبة ؛