{ 1-13 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ * وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }
هذه السورة الكريمة الجليلة ، افتتحها باسمه " الرَّحْمَنُ " الدال على سعة رحمته ، وعموم إحسانه ، وجزيل بره ، وواسع فضله ، ثم ذكر ما يدل على رحمته وأثرها الذي أوصله الله إلى عباده من النعم الدينية والدنيوية [ والآخروية وبعد كل جنس ونوع من نعمه ، ينبه الثقلين لشكره ، ويقول : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ] .
سورة الرحمن مدنية وآياتها ثمان وسبعون
هذه السورة المكية ذات نسق خاص ملحوظ . إنها إعلان عام في ساحة الوجود الكبير ، وأعلام بآلاء الله الباهرة الظاهرة ، في جميل صنعه ، وإبداع خلقه ؛ وفي فيض نعمائه ؛ وفي تدبيره للوجود وما فيه ؛ وتوجه الخلائق كلها إلى وجهه الكريم . . وهي إشهاد عام للوجود كله على الثقلين : الإنس والجن المخاطبين بالسورة على السواء ، في ساحة الوجود ، على مشهد من كل موجود ، مع تحديهما إن كانا يملكان التكذيب بآلاء الله ، تحديا يتكرر عقب بيان كل نعمة من نعمه التي يعددها ويفصلها ، ويجعل الكون كله معرضا لها ، وساحة الآخرة كذلك .
ورنة الإعلان تتجلى في بناء السورة كله ، وفي إيقاع فواصلها . . تتجلى في إطلاق الصوت إلى أعلى ، وامتداد التصويت إلى بعيد ؛ كما تتجلى في المطلع الموقظ الذي يستثير الترقب والإنتظار لما يأتي بعد المطلع من أخبار . . الرحمن . . كلمة واحدة . مبتدأ مفردا . . الرحمن كلمة واحدة في معناها الرحمة ، وفي رنتها الإعلان ، والسورة بعد ذلك بيان للمسات الرحمة ومعرض لآلاء الرحمن .
ويبدأ معرض الآلاء بتعليم القرآن بوصفه المنة الكبرى على الإنسان . تسبق في الذكر خلق الإنسان ذاته وتعليمه البيان .
ثم يذكر خلق الإنسان ، ومنحه الصفة الإنسانية الكبرى . . البيان . .
ومن ثم يفتح صحائف الوجود الناطقة بآلاء الله . . الشمس والقمر والنجم والشجر والسماء المرفوعة . والميزان الموضوع . والأرض وما فيها من فاكهة ونخل وحب وريحان . والجن والإنس . والمشرقان والمغربان . والبحران بينهما برزخ لا يبغيان ، وما يخرج منهما وما يجري فيهما .
فإذا تم عرض هذه الصحائف الكبار . عرض مشهد فنائها جميعا . مشهد الفناء المطلق للخلائق ، في ظل الوجود المطلق لوجه الله الكريم الباقي . الذي إليه تتوجه الخلائق جميعا ، ليتصرف في أمرها بما يشاء .
وفي ظل الفناء المطلق والبقاء المطلق يجيء التهديد المروع والتحدي الكوني للجن والإنس : ( سنفرغ لكم أيها الثقلان . فبأي آلاء ربكما تكذبان . يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا . لا تنفذون إلا بسلطان . فبأي آلاء ربكما تكذبان ، يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? ) . .
ومن ثم يعرض مشهد النهاية . مشهد القيامة . يعرض في صورة كونية . يرتسم فيها مشهد السماء حمراء سائلة ، ومشهد العذاب للمجرمين ، والثواب للمتقين في تطويل وتفصيل .
ثم يجيء الختام المناسب لمعرض الآلاء : ( تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ) . .
إن السورة كلها إعلان عام في ساحة الوجود الكبير . إعلان ينطلق من الملأ الأعلى ، فتتجاوب به أرجاء الوجود . ويشهده كل من في الوجود وكل ما في الوجود . .
( الرحمن ) . . . . . . . . . . .
هذا المطلع المقصود بلفظه ومعناه ، وإيقاعه وموسيقاه .
( الرحمن ) . . . . . . . . . . .
بهذا الرنين الذي تتجاوب أصداؤه الطليقة المديدة المدوية في أرجاء هذا الكون ، وفي جنبات هذا الوجود .
( الرحمن ) . . . . . . . . . . .
بهذا الإيقاع الصاعد الذاهب إلى بعيد ، يجلجل في طباق الوجود ، ويخاطب كل موجود ؛ ويتلفت على رنته كل كائن ، وهو يملأ فضاء السماوات والأرض ، ويبلغ إلى كل سمع وكل قلب . .
( الرحمن ) . . . . . . . . . . .
ويسكت . وتنتهي الآية . ويصمت الوجود كله وينصت ، في ارتقاب الخبر العظيم . بعد المطلع العظيم .
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، عن عاصم ، عن زِرٍّ ، أن رجلا قال لابن مسعود : كيف تعرف هذا الحرف : " ماء غير ياسن أو آسن " ؟ فقال : كل القرآن قد قرأت . قال : إني لأقرأ المفصل ؛ أجمع في ركعة واحدة . فقال : أهذًّا كهذِّ الشعر ، لا أبا لك ؟ قد علمت قرائن النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يقرن قرينتين قرينتين من أول المفصل ، وكان أول مفصل ابن مسعود : { الرحمن } - {[1]} .
وقال أبو عيسى الترمذي : حدثنا عبد الرحمن بن واقد أبو مسلم ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن زهير بن محمد ، عن محمد بن المُنْكَدِر ، عن جابر قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة " الرحمن " من أولها إلى آخرها ، فسكتوا فقال : " لقد قرأتها على الجن ليلة الجن ، فكانوا أحسن مردودا منكم ، كنت كلما أتيت على قوله : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ، قالوا : لا بشيء من نعمك - ربنا - نكذب ، فلك الحمد " {[2]} .
ثم قال : هذا حديث غريب ، لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم ، عن زهير بن محمد . ثم حكي عن الإمام أحمد أنه كان لا يعرفه ، ينكر {[3]} رواية أهل الشام عن زهير بن محمد هذا .
ورواه الحافظ أبو بكر البزار ، عن عمرو بن مالك ، عن الوليد بن مسلم . وعن عبد الله بن أحمد بن شبوية ، عن هشام بن عمار ، كلاهما عن الوليد بن مسلم ، به . ثم قال : لا نعرفه يروى إلا من هذا الوجه{[4]} .
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا محمد بن عباد بن موسى ، وعمرو بن مالك البصري قالا حدثنا يحيى بن سليم ، عن إسماعيل بن أمية ، عن نافع ، عن ابن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة " الرحمن " - أو : قُرِئَت عنده - فقال : " ما لي أسمع الجن أحسن جوابا لربها منكم ؟ " قالوا : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : " ما أتيت على قول الله : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } إلا قالت الجن : لا بشيء من نعمة{[5]} ربنا نكذب " .
ورواه الحافظ البزار عن عمرو بن مالك ، به {[6]} . ثم قال : لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد .
يخبر تعالى عن فضله ورحمته بخلقه : أنه أنزل على عباده القرآن ويسر حفظه وفهمه على من رحمه ، فقال : { الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ الْقُرْآنَ . خَلَقَ الإنْسَانَ . عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } قال الحسن : يعني : النطق{[27842]} . وقال الضحاك ، وقتادة ، وغيرهما : يعني الخير والشر . وقول الحسن ها هنا أحسن وأقوى ؛ لأن السياق في تعليمه تعالى القرآن ، وهو أداء تلاوته ، وإنما يكون ذلك بتيسير النطق على الخلق وتسهيل خروج الحروف من مواضعها من الحلق واللسان والشفتين ، على اختلاف مخارجها وأنواعها .
القول في تأويل قوله تعالى : { الرّحْمََنُ * عَلّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلّمَهُ البَيَانَ * الشّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } .
يقول تعالى ذكره : الرحمن أيها الناس برحمته إياكم علمكم القرآن ، فأنعم بذلك عليكم ، إذ بصّركم به ما فيه رضا ربكم ، وعرّفكم ما فيه سخطه ، لتطيعوه باتباعكم ما يرضيه عنكم ، وعملكم بما أمركم به ، وبتجنبكم ما يُسخطه عليكم ، فتستوجبوا بذلك جزيل ثوابه ، وتنجوا من أليم عقابه . وروي عن قتادة في ذلك ما :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن مروان العقيلي ، قال : حدثنا أبو العوام العجلي ، عن قتادة ، أنه قال في تفسير الرّحْمَنُ عَلّمَ القُرْآنَ قال : نعمة والله عظيمة .