فإن كنتم مؤمنين فامتثلوا لأمر اللّه ، ولا تخشوهم فتتركوا أمر اللّه ، ثم أمر بقتالهم وذكر ما يترتب على قتالهم من الفوائد ، وكل هذا حث وإنهاض للمؤمنين على قتالهم ، فقال : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ْ } بالقتل { وَيُخْزِهِمْ ْ } إذا نصركم اللّه عليهم ، وهم الأعداء الذين يطلب خزيهم ويحرص عليه ، { وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ْ } هذا وعد من اللّه وبشارة قد أنجزها . { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ
( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ )
ثم تشجعهم على قتال المشركين لعل الله أن يعذبهم بأيديهم ، فيكونوا هم ستارا لقدرة الله في تعذيب أعدائه وأعدائهم ، وخزيانهم وقهرهم . وشفاء صدور المؤمنين الذين أوذوا في الله منهم . ثم تواجه التعلات التي تحيك في صدور البعض من الأمل في دخول المشركين الباقين في الإسلام دون حرب ولا قتال . تواجه هذه التعلات بأن الرجاء الحقيقي في أن يفيء هؤلاء إلى الإسلام أولى أن يتعلق بانتصار المسلمين ، وهزيمة المشركين . فيومئذ قد يفيء بعضهم - ممن يقسم الله له التوبة - إلى الإسلام المنتصر الظاهر الظافر ! . . وفي النهاية تلفتهم الآيات إلى أن سنة الله هي ابتلاء الجماعات بمثل هذه التكاليف ليظهر حقيقة ما هم عليه . وأن السنة لا تتبدل ولا تحيد . .
( ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم ، وهموا بإخراج الرسول ، وهم بدأوكم أول مرة ? أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه ، إن كنتم مؤمنين ) . .
إن تاريخ المشركين مع المسلمين كله نكث للأيمان ، ونقض للعهود . وأقرب ما كان من هذا نقضهم لعهدهم مع رسول الله [ ص ] في الحديبية . ولقد قبل [ ص ] من شروطهم - بإلهام من ربه وهداية - ما حسبه بعض أفاضل أصحابه قبولا للدنية ! ووفى لهم بعهده أدق ما يكون الوفاء وأسماه . ولكنهم هم لم يفوا ، وخاسوا بالعهد بعد عامين اثنين ، عند أول فرصة سنحت . . كما أن المشركين هم الذين هموا بإخراج الرسول [ ص ] من قبل في مكة ؛ وبيتوا أمرهم في النهاية على قتله قبل الهجرة . وكان هذا في بيت الله الحرام الذي يأمن فيه القاتل منهم على دمه وماله ؛ حتى لكان الواحد يلقى قاتل أخيه أو أبيه في الحرم فلا يمسه بسوء . أما محمد رسول الله ، الداعي إلى الهدى والإيمان وعبادة الله وحده ، فلم يرعوا معه هذه الخصلة ؛ وهموا بإخراجه ؛ ثم تآمروا على حياته ؛ وبيتوا قتله في بيت الله الحرام ، بلا تحرج ولا تذمم مما يتحرجون منه ويتذممون مع أصحاب الثارات ! . . كذلك كانوا هم الذين هموا بقتال المسلمين وحربهم في المدينة . فهم الذين أصروا - بقيادة أبي جهل - على ملاقاة المسلمين بعد أن نجت القافلة التي خرجوا لها ؛ ثم قاتلوهم بادئين في أحد وفي الخندق . ثم جمعوا لهم في حنين كذلك . . وكلها وقائع حاضرة أو ذكريات قريبة ؛ وكلها تنم عن الإصرار الذي يصفه قول الله تعالى : ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا )كما تنم عن طبيعة العلاقة بين المعسكر الذي يعبد آلهة من دون الله تجاه المعسكر الذي لا يعبد إلا الله . .
وحين يستعرض السياق هذا الشريط الطويل من الذكريات والمواقف والأحداث ، في هذه اللمسات السريعة العميقة الإيقاع في قلوب المسلمين ، يخاطبهم : ( أتخشونهم ? ) . .
فإنهم لا يقعدون عن قتال المشركين هؤلاء إلا أن تكون هي الخشية والخوف والتهيب !
ويعقب على السؤال بما هو أشد استجاشة للقلوب من السؤال :
( فالله أحق أن تخشوه ، إن كنتم مؤمنين ) . .
إن المؤمن لا يخشى أحدا من العبيد . فالمؤمن لا يخشى إلا الله . فإذا كانوا يخشون المشركين فالله أحق بالخشية ، وأولى بالمخافة ؛ وما يجوز أن يكون لغيره في قلوب المؤمنين مكان !
وإن مشاعر المؤمنين لتثور ؛ وهي تستجاش بتلك الذكريات والوقائع والأحداث . . وهم يذكرون بتآمر المشركين على نبيهم [ ص ] . . وهم يستعرضون نكث المشركين لعهودهم معهم وتبييتهم لهم الغدر كلما التمسوا منهم غرة ، أو وجدوا في موقفهم ثغرة . وهم يتذكرون مبادأة المشركين لهم بالعداء والقتال بطرا وطغيانا . . وفي غمرة هذه الثورة يحرض المؤمنين على القتال :
( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم ، وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ، ويذهب غيظ قلوبهم ) . .
قاتلوهم يجعلكم الله ستار قدرته ، وأداة مشيئته ، فيعذبهم بأيديكم ويخزهم بالهزيمة وهم يتخايلون بالقوة ، وينصركم عليهم ويشف صدور جماعة من المؤمنين ممن آذاهم وشردهم المشركون .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قاتلوا، أيها المؤمنون بالله ورسوله، هؤلاء المشركين الذين نكثوا أيمانهم، ونقضوا عهودهم بينكم وبينهم، وأخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم (يعذبهم الله بأيديكم)، يقول: يقتلهم الله بأيديكم، (ويخزهم)، يقول: ويذلهم بالأسر والقهر (وينصركم عليهم)، فيعطيكم الظفر عليهم والغلبة، (ويشف صدور قوم مؤمنين)، يقول: ويبرئ داء صدور قوم مؤمنين بالله ورسوله، بقتل هؤلاء المشركين بأيديكم، وإذلالكم وقهركم إياهم. وذلك الداء، هو ما كان في قلوبهم عليهم من الموْجِدة بما كانوا ينالونهم به من الأذى والمكروه. وقيل: إن الله عنى بقوله: (ويشف صدور قوم مؤمنين)،: صدورَ خزاعة حلفاءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك أن قريشًا نقضوا العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعونتهم بكرًا عليهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ)؛ علم الله عز وجل كراهة القتل وثقله على الخلق، فأمر المؤمنين بمقاتلة الكفرة، ووعد لهم النصر والتعذيب. والتعذيب بأيديهم يحتمل وجهين: القتل والإهلاك، ويحتمل الأسر والسبي. (ويخزهم) يحتمل أيضا وجهين: يحتمل الهزيمة والإذلال في الدنيا ويحتمل (ويخزهم) في الآخرة كقوله: (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) [آل عمران: 192] الخزي: هو العذاب الذي فيه الفضيحة و الذلة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... "ويشف صدور قوم مؤمنين... "وفي ذلك دليل على أنه اشتد غضب جماعة المؤمنين لله، فوعدهم الله النصر، في قول قتادة والزجاج. وفيها دلالة على نبوة النبي صلى الله عليه وآله لأنه وعده النصر فكان الأمر على ما قال.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
هوَّن عليهم كلفةَ المخاطرة بالمهجة بما وَعَدَهُم مِن الظّفَرِ والنصرة، فإنَّ شهودَ خِزْيِ العدوِّ مما يُهَوِّنُ عليهم مقاساة السوء، والظَّفَرُ بالأَرَب يُذْهِبُ تَعَبَ الطَّلَب. وشفاءُ صدور المؤمنين على حسب مراتبهم في المقام والدرجات؛ فمنهم مَنْ شفاءُ صدره في قَهْرِ عدوِّه، ومنهم مَنْ شفاءُ صدره في نَيْلِ مَرْجُوِّه، ومنهم مَنْ شفاء صدره في الظَّفَر بمطلوبه، ومنهم مَنْ شفاءُ صدرِه في لقاء محبوبه. و منهم من شفاء صدره في درك مقصوده، ومنهم من شفاء صدره في البقاء بمعبوده. وكذلك ذهابُ غيظِ قلوبهم تختلف أسبابه، وتتنوَّعُ أبوابُه، وفيما ذَكَرْنَا تلويحٌ لِمَا تركنا...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
[و] لما وبخهم الله على ترك القتال، جرّد لهم الأمر به فقال: {قاتلوهم} ووعدهم -ليثبت قلوبهم ويصحح نياتهم- أنه يعذبهم بأيديهم قتلاً، ويخزيهم أسراً، ويوليهم النصر والغلبة عليهم {وَيَشْفِ صُدُورَ} طائفة من المؤمنين، وهم خزاعة، قال ابن عباس رضي الله عنه: هم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا، فلقوا من أهلها أذى شديداً، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه، فقال: "أبشروا فإن الفرج قريب..
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله {قاتلوهم يعذبهم الله} الآية، قررت الآيات قبلها أفعال الكفرة ثم حَّضض على القتال مقترناً بذنوبهم لتنبعث الحمية مع ذلك، ثم جزم الأمر بقتالهم في هذه الآية مقترناً بوعد وكيد يتضمن النصرة عليهم والظفر بهم، وقوله {يعذبهم} معناه بالقتل والأسر وذلك كله عذاب، {ويخزهم} معناه يذلهم على ذنوبهم، يقال خزي الرجل خزياً إذا ذل من حيث وقع في عار وأخزاه غيره وخزي خزاية إذا استحيى، وأما قوله {ويشف صدور قوم مؤمنين} فإن الكلام يحتمل أن يريد جماعة المؤمنين لأن كل ما يهد من الكفر هو شفاء من هم صدور المؤمنين..
اعلم أنه تعالى لما قال في الآية الأولى: {ألا تقاتلون قوما} ذكر عقيبه سبعة أشياء كل واحد منها يوجب إقدامهم على القتال. ثم إنه تعالى أعاد الأمر بالقتال في هذه الآية وذكر في ذلك القتال خمسة أنواع من الفوائد، كل واحد منها يعظم موقعه إذا انفرد، فكيف بها إذا اجتمعت؟
فأولها: قوله: {يعذبهم الله بأيديكم} وفيه مباحث:
البحث الأول: أنه تعالى سمى ذلك عذابا وهو حق فإنه تعالى يعذب الكافرين فإن شاء عجله في الدنيا وإن شاء أخره إلى الآخرة.
البحث الثاني: أن المراد من هذا التعذيب القتل تارة والأسر أخرى واغتنام الأموال ثالثا، فيدخل فيه كل ما ذكرناه.
فإن قالوا: أليس أنه تعالى قال: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} فكيف قال ههنا: {يعذبهم الله بأيديكم}؟
قلنا: المراد من قوله: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} عذاب الاستئصال، والمراد من قوله: {يعذبهم الله بأيديكم} عذاب القتل والحرب، والفرق بين البابين أن عذاب الاستئصال قد يتعدى إلى غير المذنب وإن كان في حقه سببا لمزيد الثواب، أما عذاب القتل فالظاهر أنه يبقى مقصورا على المذنب...
وثانيها: قوله تعالى: {ويخزهم} معناه: ما ينزل بهم من الذل والهوان حيث شاهدوا أنفسهم مقهورين في أيدي المؤمنين ذليلين مهينين. قال الواحدي: قوله: {ويخزهم} أي بعد قتلكم إياهم، وهذا يدل على أن هذا الإخزاء إنما وقع بهم في الآخرة، وهذا ضعيف لما بينا أن الإخزاء واقع في الدنيا. وثالثها: قوله تعالى: {وينصركم عليهم} والمعنى أنه لما حصل الخزي لهم، بسبب كونهم مقهورين فقد حصل النصر للمسلمين بسبب كونهم قاهرين...
ورابعها: قوله: {ويشف صدور قوم مؤمنين} وقد ذكرنا أن خزاعة أسلموا، فأعانت قريش بني بكر عليهم حتى نكلوا بهم، فشفى الله صدورهم من بني بكر، ومن المعلوم أن من طال تأذيه من خصمه، ثم مكنه الله منه على أحسن الوجوه فإنه يعظم سروره به، ويصير ذلك سببا لقوة النفس، وثبات العزيمة. وخامسها: قوله: {ويذهب غيظ قلوبهم}.
ولقائل أن يقول: قوله: {ويشف صدور قوم مؤمنين} معناه أنه يشفي من ألم الغيظ. وهذا هو عين إذهاب الغيظ، فكان قوله: {ويذهب غيظ قلوبهم} تكرار.
والجواب: أنه تعالى وعدهم بحصول هذا الفتح فكانوا في زحمة الانتظار، كما قيل الانتظار الموت الأحمر، فشفى صدورهم من زحمة الانتظار، وعلى هذا الوجه يظهر الفرق بين قوله: {ويشف صدور قوم مؤمنين} وبين قوله: {ويذهب غيظ قلوبهم}.
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
{قوم مؤمنين} قيل: إنهم خزاعة والإطلاق أحسن.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ثم قال تعالى عزيمة على المؤمنين وبيانا لحكمته فيما شرع لهم من الجهاد مع قدرته على إهلاك الأعداء بأمر من عنده: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ...وهذا عام في المؤمنين كلهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما بَكّتَ في التواني عنهم، وعدهم بما يزيل خشيتهم منهم، بل يوجب إقدامهم عليهم ورغبتهم فيهم، فقال مصرحا بما تضمنه الاستفهام الإنكاري في {ألا تقاتلون} من الأمر: {قاتلوهم} أي لله لا لغرض غيره {يعذبهم الله} أي الذي أنتم مؤمنون بأنه المتفرد بصفات الجلال والجمال {بأيديكم} أي بأن تقتلوهم وتأسروهم وتهزموهم {ويخزهم} أي بالذل في الدنيا والفضيحة والعذاب في الأخرى.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
فقوله: {قاتلوهم} معناه باشروا قتالهم كما أمرتم، فإنكم إن تقاتلوهم {يعذبهم الله بأيديكم} بتمكينها من رقابهم قتلا، ومن صدورهم ونحورهم طعنا، يعقبهم في قلوبهم يأسا، لا يدع في أنفسهم بأسا، فالظاهر أنه تعالى أسند التعذيب إلى اسمه؛ لأنه أمر زائد على أسبابه من الطعن والضرب، وما يفضيان إليه من القتل والجرح، وكل قوم يقاتلون فإنهم يصابون بالطعن والضرب، ويقتل بعضهم ويجرح بعض، ولا يسمون معذبين بذلك وحده فإن الغالب والمغلوب فيه سواء، وإنما يدل هذا الإسناد على أنه تعالى سيحدث في أنفس المشركين في هذا القتال ألما نفسيا لعل أظهر أسبابه اليأس، ولذلك قال: {ويخزهم} بذل الأسر والقهر والفقر لمن لم يقتل منهم.
{وينصركم عليهم} أكمل النصر وأتمه، بحيث لا يعود لهم بعد هذه المرة قوة ولا سلطان يعودون به إلى قتالكم، كما كان شأنهم بعد نصركم عليهم في بدر وغيرها.
{ويشف صدور قوم مؤمنين} كان هؤلاء المشركون قد نالوا منهم ما نالوا في سلطانهم، فكان في صدورهم من موجدة القهر والذل ما لا شفاء له إلا بهذا النصر عليهم، وهؤلاء المؤمنون هم الذين غدر بهم المشركون كخزاعة، والذين كانوا في دار الشرك عاجزين عن الهجرة.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أمر بقتالهم وذكر ما يترتب على قتالهم من الفوائد، وكل هذا حث وإنهاض للمؤمنين على قتالهم {وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ْ} هذا وعد من اللّه وبشارة قد أنجزها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم تشجعهم على قتال المشركين لعل الله أن يعذبهم بأيديهم، فيكونوا هم ستارا لقدرة الله في تعذيب أعدائه وأعدائهم، وخزيانهم وقهرهم. وشفاء صدور المؤمنين الذين أوذوا في الله منهم. ثم تواجه التعلات التي تحيك في صدور البعض من الأمل في دخول المشركين الباقين في الإسلام دون حرب ولا قتال. تواجه هذه التعلات بأن الرجاء الحقيقي في أن يفيء هؤلاء إلى الإسلام أولى أن يتعلق بانتصار المسلمين، وهزيمة المشركين. فيومئذ قد يفيء بعضهم -ممن يقسم الله له التوبة- إلى الإسلام المنتصر الظاهر الظافر!.. وفي النهاية تلفتهم الآيات إلى أن سنة الله هي ابتلاء الجماعات بمثل هذه التكاليف ليظهر حقيقة ما هم عليه. وأن السنة لا تتبدل ولا تحيد.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إنّ الله ضمن للمسلمين من تلك المقاتلة خمس فوائد تنحلّ إلى اثنتي عشرة إذ تشتمل كل فائدة منها على كرامة للمؤمنين وإهانة لهؤلاء المشركين وروعي في كلّ فائدة منها الغرض الأهمّ فصرح به وجعل ما عداه حاصلاً بطريق الكناية. الفائدة الأولى تعذيب المشركين بأيدي المسلمين وهذه إهانة للمشركين وكرامة للمسلمين. الثانية: خزي المشركين وهو يستلزم عِزّة المسلمين. الثالثة: نصر المسلمين، وهذه كرامة صريحة لهم وتستلزم هزيمة المشركين وهي إهانة لهم. الرابعة: شفاء صدور فريق من المؤمنين، وهذه صريحة في شفاء صدور طائفة من المؤمنين وهم خزاعة، وتستلزم شفاء صدور المؤمنين كلّهم، وتستلزم حرج صدور أعدائهم فهذه ثلاث فوائد في فائدة. الخامسة: إذهاب غيظ قلوب فريق من المؤمنين أو المؤمنين كلّهم، وهذه تستلزم ذهاب غيظ بقية المؤمنين الذي تحملوه من إغاظة أحلامهم وتستلزم غيظ قلوب أعدائهم، فهذه ثلاث فوائد في فائدة. والتعذيب تعذيب القتل والجراحة. وأسند التعذيب إلى الله وجعلت أيدي المسلمين آلة له تشريفاً للمسلمين. والإخزاء: الإذلال، وتقدّم في البقرة. وهو هنا الإذلال بالأسر. والنصرُ حصول عاقبة القتال المرجوّة. وتقدّم في أول البقرة. والشفاء: زوال المرض ومعالجة زواله. أطلق هنا استعارة لإزالة ما في النفوس من تعب الغيظ والحقد، كما استعير ضدّه وهو المرض لما في النفوس من الخواطر الفاسدة في قوله تعالى: {في قلوبهم مرض} [البقرة: 10]
{يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} ونتساءل: إذا كان الله يريد أن يعذبهم فلماذا لا يأتي بآية من عنده تخضعهم للعذاب؟. نقول: لو انتصر المؤمنون بحدث كوني غير القتال لقال الكفار: حدث كوني هو الذي نصرهم. ويشاء الحق سبحانه وتعالى أن ينهزم هؤلاء الكفار بأيدي المؤمنين؛ لأن الكفار ماديون لا يؤمنون إلا بالأمر المادي؛ ولو أنهم كانون مؤمنين بالله لانتهت المسألة، ولكن الله سبحانه وتعالى يريد أن يُريَ الكفار بأس المؤمنين لتمتلئ قلوبهم هيبة وخوفا من المؤمنين، ويحسبوا لهم ألف حساب، فلا تحدثهم أنفسهم بأن يجترئوا على الإيمان وعلى الدين أو أن يستهينوا بالمؤمنين.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَاتِلُوهُمْ} فذلك هو الأمر الحاسم الذي يلغي وجود الشرك كقوّة في الجزيرة العربية، ويزيل تأثيره من النفوس، ويدفع الناس إلى شجاعة الموقف الذي يدعوهم إلى الإيمان، ولكن يمنعهم من ذلك خوفهم من المشركين، {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} لأنكم تنفِّذون إرادة الله في جهادكم وقتالكم لهم، {وَيُخْزِهِمْ} بهزيمتهم المنكرة المنتظرة أمامكم {وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} بإيمانكم وثباتكم وجهادكم في سبيل الله {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} في ما لاقوه من التعسف والاضطهاد والإذلال والتشريد من جماعة المشركين، من أجل أن يفتنوهم عن دينهم.