تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أَفَمَنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ تَقۡوَىٰ مِنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٍ خَيۡرٌ أَم مَّنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٖ فَٱنۡهَارَ بِهِۦ فِي نَارِ جَهَنَّمَۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (109)

ثم فاضل بين المساجد بحسب مقاصد أهلها وموافقتها لرضاه فقال : { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ ْ } أي : على نية صالحة وإخلاص { وَرِضْوَانٌ ْ } بأن كان موافقا لأمره ، فجمع في عمله بين الإخلاص والمتابعة ، { خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا ْ } أي : على طرف { جُرُفٍ هَارٍ ْ } أي : بال ، قد تداعى للانهدام ، { فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ْ } لما فيه مصالح دينهم ودنياهم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَفَمَنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ تَقۡوَىٰ مِنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٍ خَيۡرٌ أَم مَّنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٖ فَٱنۡهَارَ بِهِۦ فِي نَارِ جَهَنَّمَۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (109)

( أفمن أسس بنيانه على تقوى من اللّه ورضوان خير ? أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم ? واللّه لا يهدي القوم الظالمين ) . .

فلنقف نتطلع لحظة إلى بناء التقوى الراسي الراسخ المطمئن . . ثم لنتطلع بعد إلى الجانب الآخر ! لنشهد الحركة السريعة العنيفة في بناء الضرار . . إنه قائم على شفا جرف هار . . قائم على حافة جرف منهار . . قائم على تربة مخلخلة مستعدة للانهيار . . إننا نبصره اللحظة يتأرجح ويتزحلق وينزلق ! . . إنه ينهار ! إنه ينزلق ! إنه يهوي ! إن الهوة تلتهمه ! يا للهول ! إنها نار جهنم . . ( واللّه لا يهدي القوم الظالمين ) . . الكافرين المشركين . الذين بنوا هذه البنية ليكيدوا بها هذا الدين !

إنه مشهد عجيب ، حافل بالحركة المثيرة ترسمه وتحركه بضع كلمات ! . . ذلك ليطمئن دعاة الحق على مصير دعوتهم ، في مواجهة دعوات الكيد والكفر والنفاق ! وليطمئن البناة على أساس من التقوى كلما واجهوا البناة على الكيد والضرار !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَفَمَنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ تَقۡوَىٰ مِنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٍ خَيۡرٌ أَم مَّنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٖ فَٱنۡهَارَ بِهِۦ فِي نَارِ جَهَنَّمَۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (109)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ أَفَمَنْ أَسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ تَقْوَىَ مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مّنْ أَسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ } .

اختلفت القرّاء في قراءة قوله : أفَمَنْ أسّسَ بُنْيَانَهُ فقرأ ذلك بعض قرّاء أهل المدينة : «أفَمَنْ أسّسَ بُنْيَانَهُ على تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أمّنْ أُسّسَ بُنْيَانُهُ » على وجه ما لم يسمّ فاعله في الحرفين كليهما . وقرأت ذلك عامة قرّاء الحجاز والعراق : أفَمَنْ أسّسَ بُنْيَانَهُ على تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أمّنْ أسّسَ بُنْيانَهُ على وصف من بناء الفاعل الذي أسس بنيانه . وهما قراءتان متفقتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب غير أن قراءته بتوجيه الفعل إلى «من » إذا كان هو المؤسس أعجب إليّ .

فتأويل الكلام إذا : أي هؤلاء الذين بنوا المساجد خير أيها الناس عندكم الذين ابتدءوا بناء مسجدهم على اتقاء الله بطاعتهم في بنائه وأداء فرائضه ورضا من الله لبنائهم ما بنوه من ذلك وفعلهم ما فعلوه خير ، أم الذين ابتدءوا بناء مسجدهم على شفا جرف هار ، يعني بقوله : على شَفا جُرُفٍ على حرف جر ، والجُرُف من الركيّ ما لم يبن له جُول . هَارٍ يعني متهوّر ، وإنما هو هائر ولكنه قلب ، فأخرت ياؤها ، فقيل هارٍ كما قيل : هو شاك السلاح وشائك ، وأصله من هار يهور فهو هائر وقيل : هو من هَارَ يَهَارُ : إذا انهدم ، ومن جعله من هذه اللغة قال : هَرْتَ يا جُرُفُ ومن جعله من هار يهور قال : هُرْتُ يا جُرُف وإنما هذا مثل . يقول تعالى ذكره : أيّ هذين الفريقين خير ، وأيّ هذين البناءين أثبت ، أمن ابتدأ أساس بنائه على طاعة الله وعلم منه بأن بناءه لله طاعة والله به راض ، أم من ابتدأه بنفاق وضلال وعلى غير بصيرة منه بصواب فعله من خطئه ، فهو لا يدري متى يتبين له خطأ فعله وعظيم ذنبه فيهدمه ، كما يأتي البناء على جرف ركية لا حابس لماء السيول عنها ولغيره من المياه ترى به التراب متناثرا لا تلبثه السيول أن تهدمه وتنثره ؟ يقول الله جلّ ثناؤه : فانْهَارَ بِهِ فِي جَهَنّمَ يعني فانتثر الجرف الهاري ببنائه في نار جهنم . كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : فانهار به قواعده في نار جهنم .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فانْهَارَ بِهِ يقول : فخرّ به .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : أفَمَنْ أسّسَ بُنْيَانَهُ على تَقْوَى مِنَ اللّهِ ، . . إلى قوله : فانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنّمَ قال : والله ما تناهى أن وقع في النار . ذُكر لنا أنه حفرت بقعة منه فرؤي منها الدخان .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : أن بنو عمرو بن عوف استأذنوا النبيّ صلى الله عليه وسلم في بنيانه ، فأذن لهم ففرغوا منه يوم الجمعة فصلوا فيه الجمعة ويوم السبت ويوم الأحد . قال : وانهار يوم الاثنين . قال : وكان قد استنظرهم ثلاثا : السبت والأحد والاثنين ، فانهار به في نار جهنم ، مسجد المنافقين انهار فلم يتناه دون أن وقع في النار . قال ابن جريج : ذكر لنا أن رجالاً حفروا فيه ، فأبصروا الدخان يخرج منه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا عبد العزيز بن المختار ، عن عبد الله الداناج ، عن طلق ابن حبيب ، عن جابر ، قوله : وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجِدا ضِرَارا قال : رأيت المسجد الذي بني ضرارا يخرج منه الدخان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم .

حدثنا محمد بن مرزوق البصري ، قال : حدثنا أبو سلمة ، قال : حدثنا عبد العزيز بن المختار ، عن عبد الله الداناج ، قال : ثني طلق العنزي ، عن جابر بن عبد الله ، قال : رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار .

حدثني سلام بن سالم الخزاعي ، قال : حدثنا خلف بن ياسين الكوفي ، قال : حججت مع أبي في ذلك الزمان يعني زمان بني أمية فمررنا بالمدينة ، فرأيت مسجد القبلتين يعني مسجد الرسول وفيه قبلة بيت المقدس . فلما كان زمان أبي جعفر ، قالوا : يدخل الجاهل فلا يعرف القبلة ، فهذا البناء الذي يرون جرى على يد عبد الصمد بن عليّ . ورأيت مسجد المنافقين الذي ذكره الله في القرآن ، وفيه حجر يخرج منه الدخان ، وهو اليوم مزبلة .

قوله : وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ يقول : والله لا يوفق للرشاد في أفعاله من كان بانيا بناءه في غير حقه وموضعه ، ومن كان منافقا مخالفا بفعله أمر الله وأمر رسوله .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَفَمَنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ تَقۡوَىٰ مِنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٍ خَيۡرٌ أَم مَّنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٖ فَٱنۡهَارَ بِهِۦ فِي نَارِ جَهَنَّمَۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (109)

تفريع على قوله : { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه } [ التوبة : 108 ] لزيادة بيان أحقية المسجد المؤسَّس على التقوى بالصلاة فيه .

وبيان أن تفضيل ذلك المسجد في أنه حقيق بالصلاة فيه تفضيل مسلوب المشاركة لأن مسجد الضرار ليس حقيقاً بالصلاة فيه بعد النهي ، لأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لو وقعت لأكسبت مَقصدَ وَاضعيه رواجاً بين الأمة وهو غرضهم التفريق بين جماعات المسلمين كما تقدم .

والفاء مؤخرة عن همزة الاستفهام لأحقية حرف الاستفهام بالتصدير . والاستفهام تقريري .

والتأسيس : بناءُ الأساس ، وهو قاعدة الجدار المبني من حجر وطين أو جص .

والبنيان في الأصل مصدر بوزن الغُفران والكفران ، اسم لإقامة البيت ووضعه سواء كان البيت من أثواب أم من أدم أم كان من حجر وطين فكل ذلك بناء . ويطلق البنيان على المبني من الحجر والطين خاصة . وهو هنا مطلق على المفعول ، أي المبني . وما صدق ( من ) صاحبُ البناء ومستحقه ، فإضافة البنيان إلى ضمير ( مَن ) إضافة على معنى اللام . وشُبه القصد الذي جعل البناء لأجله بأساس البناء ، فاستعير له فعل { أسس } في الموضعين .

ولما كان من شأن الأساس أن تطلب له صلابة الأرض لدوامه جعلت التقوى في القصد الذي بني له أحد المسجدين ، فشبهت التقوى بما يرتكز عليه الأساس على طريقة المكنية ، ورُمز إلى المشبه به المحذوف بشيء من ملائماته وهو حرف الاستعلاء . وفُهم أن هذا المشبه به شيء راسخ ثابت بطريق المقابلة في تشبيه الضد بما أسس على شفاً جُرُف هار ، وذلك بأن شبه المقصد الفاسد بالبناء بجرْف جُرف منهار في عدم ثبات ما يقام عليه من الأساس بله البناء على طريقة الاستعارة التصريحية . وحرف الاستعلاء ترشيح .

وفرع على هذه الاستعارة الأخيرة تمثيل حالة هدمه في الدنيا وإفضائه ببانيه إلى جهنم في الآخرة بانهيار البناء المُؤسس على شفَا جُرف هارَ بساكنه في هوّة . وجعل الانهيار به إلى نار جهنم إفضاء إلى الغاية من التشبيه . فالهيئة المشبهة مركبة من محسوس ومعقول وكذلك الهيئة المشبه بها . ومقصود أن البنيان الأول حصل منه غرض بانيه لأن غرض الباني دوام ما بناه . فهم لما بنوه لقصد التقوى ورضى الله تعالى ولم يُذكر ما يقتضي خيبتهم فيه كما ذُكر في مقابله عُلم أنهم قد اتقوا الله بذلك وأرضوه ففازوا بالجنة ، كما دلت عليه المقابلة ، وأن البنيان الثاني لم يَحصل غرضُ بانيه وهو الضرار والتفريق فخابوا فيما قصدوه فلم يثبت المقصد ، وكان عدم ثباته مفضياً بهم إلى النار كما يفضي البناء المنهار بساكنه إلى الهلاك .

والشَّفا بفتح الشين وبالقصر : حرف البئر وحرف الحفرة .

والجُرف بضمتين : جانب الوادي وجانب الهُوة .

وهارٍ : اسم مشتق من هَارَ البناءُ إذا تصدع ، فقيل : أصله هَوَر بفتحتين كما قالوا خَلَف في خالف . وليست الألف التي بعد الهاء ألف فاعل بل هي عين الكلمة منقلبة عن الواو لأن الواو متحركة وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً ، وقيل هو اسم فاعل من هار البناء وأصل وزنه هاور ، فوقع فيه قلب بين عينه ولامه تخفيفاً . وقد وقع ذلك في ألفاظ كثيرة من اللغة مثل قولهم : شاكي السلاح ، أصله شائِك . ورجل صاتٌ عالي الصوت أصله صائتٌ . ويدل لذلك قولهم : انهار ولم يقولوا انهرى . وهَرٍ مبالغةً في هَار .

وقرأ نافع وابن عامر وحدهما فعل { أسس } في الموضعين بصيغة البناء للمفعول ورفع { بنيانُه } في الموضعين . وقرأها الباقون بالبناء للفاعل ونصب { بنيانَه } في الموضعين .

وقرأ الجمهور { جُرُف } بضم الراء . وقرأه ابن عامر وحمزة وأبو بكر عن عاصم وخلفٌ بسكون الراء .

وجملة : { والله لا يهدي القوم الظالمين } تذييل ، وهو عام يشمل هؤلاء الظالمين الذين بنوا مسجد الضرار وغيرهم .