اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَفَمَنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ تَقۡوَىٰ مِنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٍ خَيۡرٌ أَم مَّنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٖ فَٱنۡهَارَ بِهِۦ فِي نَارِ جَهَنَّمَۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (109)

قوله : { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ } .

قرأ نافع{[18144]} ، وابن عامر " أسِّسَ " مبنياً للمفعول ، " بُنيانُه " بالرفع ، لقيامه مقام الفاعل .

والباقون " أسَّسَ " مبنياً للفاعل ، " بُنيانَهُ " مفعول به ، والفاعل ضمير " مَنْ " وقرأ{[18145]} عمارة بن عائذ الأوَّل مبنياً للمفعول ، والثاني مبنياً للفاعل ، و " بُنْيَانهُ " مرفوع على الأولى ومنصوب على الثانية لما تقدَّم .

وقرأ نصر بن علي{[18146]} ، ونصر بن عاصم " أسسُ بُنيانِهِ " . وقرأ أبُو{[18147]} حيوة " أساسُ بُنيانِهِ " جمع " أُسِّ " . وروي عن نصر{[18148]} بن عاصم أيضاً " أَسُّ " بهمزة مفتوحة وسين مضمومة .

وقرئ " إسَاسُ " بالكسر ، وهي جموع أضيفت إلى " البُنيانِ " . وقرئ " أسَاسُ " بفتح الهمزة و " أسّ " بضم الهمزة وتشديد السين ، وهما مفردان أضيفا إلى البنيان{[18149]} .

ونقل صاحبُ اللوامح فيه " أسَسُ " {[18150]} بالتخفيف ورفع السين ، " بنيانِهِ " بالجر ، ف " أسس " مصدر أسس الحائط ، يؤسسُه أسَساً ، وأسًّا . فهذه عشر قراءات ، والأسُّ والأسَاسُ القاعدةُ التي يبنى عليها الشيءُ . ويقالُ : كان ذلك على أس الدهر ، كقولهم : على وجه الدهر . ويقال : أسَّ ، مضعفاً : أي : جعل له أسَاساً ، وآسَسَ ، بزنة " فاعل " .

و " البُنْيَان " فيه قولان :

أحدهما : أنَّهُ مصدر ، ك : الغُفْران ، والشُّكران ، وأطلق على المفعول ك " الخَلْق " بمعنى المخلوق ، وإطلاق المصدر على المفعول مجاز مفهومٌ ، يقالُ : هذا ضربُ الأمير ونسج زيدٍ ، أي : مضروبه ، ومنسوجه .

والثاني : أنَّهُ جمعٌ ، وواحده " بُنْيَانة " ؛ قال الشاعرُ :

كَبُنْيَانَةِ القَرْيِيِّ موضِعُ رَحْلِهَا *** وآثَارُ نِسْعَيْهَا مِنْ الدَّفِّ أبْلَقُ{[18151]}

يعنون أنه اسم جنسٍ ، ك : قمح وقمحة .

قوله : " على تقوى " يجوزُ فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلقٌ بنفس " أسَّسَ " فهو مفعول في المعنى .

والثاني : أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من الضَّميرِ المستكن في " أسَّسَ " أي : قاصداً بنيانه التقوى ، كذا قدَّره أبُو البقاءِ .

وقرأ عيسى{[18152]} بن عمر " تَقْوًى " منونة . وحكى هذه القراءة سيبويه ، ولم يرتضها الناسُ لأنَّ ألفها للتأنيث ، فلا وجهَ لتنوينها ، وقد خرَّجها الناسُ على أن تكون ألفها للإلحاق .

قال ابنُ جني{[18153]} : قياسُها أن تكون ألفها للإلحاق ، ك " أرْطَى " . قوله : " خَيْرٌ " خبر المبتدأ . والتفضيل هنا باعتبار معتقدهم . و " أمْ " متصلة ، و " مِنْ " الثانية عطف على " مِنْ " الأولى ، و " أسَّسَ بُنْيانَهُ " كالأولى ، قوله : " على شَفَا جُرُفٍ " كقوله : " على تقوى " في وجهيه . والشَّفا : الشَّفير ، وشفا الشيء حرفه ، يقال : أشْفَى على كذا إذا دنا منه . وتقدَّم الكلامُ عليه في آل عمران . وقرأ حمزة{[18154]} ، وابنُ عامرٍ ، وأبو بكر عن عاصم " جُرْفٍ " بسكون الرَّاءِ والباقون بضمها . فقيل : لغتان . وقيل : السَّاكن فرعٌ على المضموم ، ك : " عُنْق " في " عُنُق " و " طُنْب " في " طُنُب " . وقيل : العكس ك : " عُسُر ويُسُر " . و " الجُرْف " البئر التي لم تُطْوَ . وقيل : هو الهُوَّةُ ، وما يَجْرفُه السَّيْلُ من الأودية ، قاله أبُو عبيدة .

وقيل : هو المكان الذي يأكلهُ الماء ، فيجْرفه ، أي : يذهب به ، ورجُلٌ جراف ، أي : كثير النكاح كأنَّه يجرفُ في ذلك العملِ ، قاله الراغبُ .

قوله : " هَارٍ " نعت ل : " جُرُفٍ " ، وفيه ثلاثة أقوال :

أحدها - وهو المشهورُ - : أنَّهُ مقلوبٌ بتقديم لامه على عينه ، وذلك أنَّ أصله : هاورٌ ، أو هايرٌ بالواو والياء ؛ لأنه سمع فيه الحرفان قالوا : هَارَ يَهُور فانهارَ ، وهَارَ يَهير ، وتهَوَّر البناءُ ، وتهَيَّر فقُدِّمت اللام ، وهي " الراء " على العين - وهي " الواو " أو " الياء " - فصار ك : غازٍ ، ورامٍ ، فأعلَّ بالنقص كإعلالهما ، فوزنه بعد القلب : " فَالِع " ، ثم تزنُه بعد الحذف ب " فَالٍ " .

الثاني : أنه حذفت عينه اعتباطاً ، أي : لغير موجبٍ ، وعلى هذا ، فيجري بوجوه الإعراب على لامه ، فيقال : هذا هارٌ ، ورأيت هاراً ، ومررتُ بهارٍ ، ووزنه أيضاً " فال " .

والثالث : أنَّهُ لا قلب فيه ولا حذف ، وأنَّ أصله " هَوِر " ، أو " هَيِر " بزنة " كَتِف " ، فتحرك حرف العلة ، وانفتح ما قبله ، فقُلِب ألفاً ، فصار مثل قولهم : كبشٌ صافٌ . أي : صَوِف ، ويومٌ راحٌ ، أي : روحٌ . وعلى هذا ، فيجري بوجوه الإعراب أيضاً كالذي قبله ، كما تقولُ : هذا بابٌ ورأيتُ باباً ، ومررت ببابٍ .

وهذا أعدل الوُجُوهِ ، لاستراحته من ادِّعاءِ القلبِ ، والحذف اللذين هما على خلاف الأصلِ ، لولا أنه غير مشهور عند أهل التَّصريف . ومعنى : " هَارٍ " أي : ساقط متداع منهال .

قال الليثُ : الهورُ : مصدر هَارَ الجُرفُ يهورُ ، إذا انصدَعَ من خلفه ، وهو ثابتٌ بعدُ في مكانه ، وهو جرفٌ هارٍ أي : هائر ، فإذا سقط ؛ فقد انهارَ وتَهيَّر . ومعناه السَّاقط الذي يتداعى بعضه في أثر بعض كما ينهار الرَّمل والشيء الرخو .

قوله : " فانهار " فاعله إمَّا ضميرُ البنيان ، والهاءُ في " به " على هذا ضمير المؤسس الباني أي : فسقط بنيان الباني على شفا جرفٍ هار ، وإمَّا ضمير الشَّفَا ، وإمَّا ضمير الجرف أي : فسقط الشَّفَا ، أو سقط الجرفُ ، والهاء في " بِهِ " للبنيان ، ويجوز أن يكون للباني المؤسس . والأولى أن يكون الفاعل ضميرَ الجرف ؛ لأنَّهُ يلزمُ من انهياره انهيارُ الشَّفَا والبنيان جميعاً ، ولا يلزمُ من انهيارهما أو انهيار أحدهما انيهارهُ . والباءُ في " به " يجوز أن تكون المعدِّية ، وأن تكون التي للمصاحبة ، وقد تقدَّم الخلاف في أول الكتاب أنَّ المعدِّيةَ عند بعضهم تستلزم المصاحبة . وإذا قيل إنَّها للمصاحبة هنا ؛ فتتعلقُ بمحذوفٍ ؛ لأنَّها حال أي : فانهار مصاحباً له .

فصل

معنى الآية : أفمَنْ أسَّس بنيان دينه على قاعدةٍ قويَّة محكمة وهو الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه خير ، أمَّنْ أسَّسَ على قاعدة هي أضعف القواعد وأقلها بقاء ، وهو الباطلُ والنِّفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار من أودية جهنم ؟ وكونه شفا جرف هار كان مشرفاً على السُّقوط ولكونه على طرف جهنم ، كان إذا انهار فإنَّما ينهار في قعر جهنم ، فالمعنى أنَّ أحد البنائين قصد بانيه ببنائه تقوى الله ورضوانه ، والبناء الثاني قصد بانيه ببنائه المعصية والكفر فكان البناء الأول شريفاً واجب الإبقاء ، والبناء الثاني خسيساً واجب الهدم ؛ فلا يرى مثال أخس مطابقة لأمر المنافقين من هذا المثال ، { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } .


[18144]:ينظر: السبعة ص (318)، الحجة 4/218، حجة القراءات ص (323)، إتحاف 2/98.
[18145]:ينظر: المحرر الوجيز 3/84، البحر المحيط 5/103، الدر المصون 3/504.
[18146]:ينظر: السابق.
[18147]:ينظر: السابق.
[18148]:ينظر: السابق.
[18149]:ينظر: الكشاف 2/311، المحرر الوجيز 3/84، البحر المحيط 5/103، الدر المصون 3/504.
[18150]:ينظر: الكشاف 2/311، المحرر الوجيز 3/84، البحر المحيط 5/103، الدر المصون 3/504.
[18151]:ينظر: ديوان زهير بشرح ثعلب 257، البحر المحيط 5/103، والمحرر الوجيز 3/84، والدر المصون 3/504.
[18152]:ينظر: المحرر الوجيز 3/84، البحر المحيط 5/103، الدر المصون 3/505.
[18153]:ينظر: المحتسب لابن جني 1/304.
[18154]:ينظر: الكشاف 2/312، المحرر الوجيز 3/84-85، البحر المحيط 5/104، الدر المصون 3/505.