قوله : { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ } .
قرأ نافع{[18144]} ، وابن عامر " أسِّسَ " مبنياً للمفعول ، " بُنيانُه " بالرفع ، لقيامه مقام الفاعل .
والباقون " أسَّسَ " مبنياً للفاعل ، " بُنيانَهُ " مفعول به ، والفاعل ضمير " مَنْ " وقرأ{[18145]} عمارة بن عائذ الأوَّل مبنياً للمفعول ، والثاني مبنياً للفاعل ، و " بُنْيَانهُ " مرفوع على الأولى ومنصوب على الثانية لما تقدَّم .
وقرأ نصر بن علي{[18146]} ، ونصر بن عاصم " أسسُ بُنيانِهِ " . وقرأ أبُو{[18147]} حيوة " أساسُ بُنيانِهِ " جمع " أُسِّ " . وروي عن نصر{[18148]} بن عاصم أيضاً " أَسُّ " بهمزة مفتوحة وسين مضمومة .
وقرئ " إسَاسُ " بالكسر ، وهي جموع أضيفت إلى " البُنيانِ " . وقرئ " أسَاسُ " بفتح الهمزة و " أسّ " بضم الهمزة وتشديد السين ، وهما مفردان أضيفا إلى البنيان{[18149]} .
ونقل صاحبُ اللوامح فيه " أسَسُ " {[18150]} بالتخفيف ورفع السين ، " بنيانِهِ " بالجر ، ف " أسس " مصدر أسس الحائط ، يؤسسُه أسَساً ، وأسًّا . فهذه عشر قراءات ، والأسُّ والأسَاسُ القاعدةُ التي يبنى عليها الشيءُ . ويقالُ : كان ذلك على أس الدهر ، كقولهم : على وجه الدهر . ويقال : أسَّ ، مضعفاً : أي : جعل له أسَاساً ، وآسَسَ ، بزنة " فاعل " .
أحدهما : أنَّهُ مصدر ، ك : الغُفْران ، والشُّكران ، وأطلق على المفعول ك " الخَلْق " بمعنى المخلوق ، وإطلاق المصدر على المفعول مجاز مفهومٌ ، يقالُ : هذا ضربُ الأمير ونسج زيدٍ ، أي : مضروبه ، ومنسوجه .
والثاني : أنَّهُ جمعٌ ، وواحده " بُنْيَانة " ؛ قال الشاعرُ :
كَبُنْيَانَةِ القَرْيِيِّ موضِعُ رَحْلِهَا *** وآثَارُ نِسْعَيْهَا مِنْ الدَّفِّ أبْلَقُ{[18151]}
يعنون أنه اسم جنسٍ ، ك : قمح وقمحة .
قوله : " على تقوى " يجوزُ فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلقٌ بنفس " أسَّسَ " فهو مفعول في المعنى .
والثاني : أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من الضَّميرِ المستكن في " أسَّسَ " أي : قاصداً بنيانه التقوى ، كذا قدَّره أبُو البقاءِ .
وقرأ عيسى{[18152]} بن عمر " تَقْوًى " منونة . وحكى هذه القراءة سيبويه ، ولم يرتضها الناسُ لأنَّ ألفها للتأنيث ، فلا وجهَ لتنوينها ، وقد خرَّجها الناسُ على أن تكون ألفها للإلحاق .
قال ابنُ جني{[18153]} : قياسُها أن تكون ألفها للإلحاق ، ك " أرْطَى " . قوله : " خَيْرٌ " خبر المبتدأ . والتفضيل هنا باعتبار معتقدهم . و " أمْ " متصلة ، و " مِنْ " الثانية عطف على " مِنْ " الأولى ، و " أسَّسَ بُنْيانَهُ " كالأولى ، قوله : " على شَفَا جُرُفٍ " كقوله : " على تقوى " في وجهيه . والشَّفا : الشَّفير ، وشفا الشيء حرفه ، يقال : أشْفَى على كذا إذا دنا منه . وتقدَّم الكلامُ عليه في آل عمران . وقرأ حمزة{[18154]} ، وابنُ عامرٍ ، وأبو بكر عن عاصم " جُرْفٍ " بسكون الرَّاءِ والباقون بضمها . فقيل : لغتان . وقيل : السَّاكن فرعٌ على المضموم ، ك : " عُنْق " في " عُنُق " و " طُنْب " في " طُنُب " . وقيل : العكس ك : " عُسُر ويُسُر " . و " الجُرْف " البئر التي لم تُطْوَ . وقيل : هو الهُوَّةُ ، وما يَجْرفُه السَّيْلُ من الأودية ، قاله أبُو عبيدة .
وقيل : هو المكان الذي يأكلهُ الماء ، فيجْرفه ، أي : يذهب به ، ورجُلٌ جراف ، أي : كثير النكاح كأنَّه يجرفُ في ذلك العملِ ، قاله الراغبُ .
قوله : " هَارٍ " نعت ل : " جُرُفٍ " ، وفيه ثلاثة أقوال :
أحدها - وهو المشهورُ - : أنَّهُ مقلوبٌ بتقديم لامه على عينه ، وذلك أنَّ أصله : هاورٌ ، أو هايرٌ بالواو والياء ؛ لأنه سمع فيه الحرفان قالوا : هَارَ يَهُور فانهارَ ، وهَارَ يَهير ، وتهَوَّر البناءُ ، وتهَيَّر فقُدِّمت اللام ، وهي " الراء " على العين - وهي " الواو " أو " الياء " - فصار ك : غازٍ ، ورامٍ ، فأعلَّ بالنقص كإعلالهما ، فوزنه بعد القلب : " فَالِع " ، ثم تزنُه بعد الحذف ب " فَالٍ " .
الثاني : أنه حذفت عينه اعتباطاً ، أي : لغير موجبٍ ، وعلى هذا ، فيجري بوجوه الإعراب على لامه ، فيقال : هذا هارٌ ، ورأيت هاراً ، ومررتُ بهارٍ ، ووزنه أيضاً " فال " .
والثالث : أنَّهُ لا قلب فيه ولا حذف ، وأنَّ أصله " هَوِر " ، أو " هَيِر " بزنة " كَتِف " ، فتحرك حرف العلة ، وانفتح ما قبله ، فقُلِب ألفاً ، فصار مثل قولهم : كبشٌ صافٌ . أي : صَوِف ، ويومٌ راحٌ ، أي : روحٌ . وعلى هذا ، فيجري بوجوه الإعراب أيضاً كالذي قبله ، كما تقولُ : هذا بابٌ ورأيتُ باباً ، ومررت ببابٍ .
وهذا أعدل الوُجُوهِ ، لاستراحته من ادِّعاءِ القلبِ ، والحذف اللذين هما على خلاف الأصلِ ، لولا أنه غير مشهور عند أهل التَّصريف . ومعنى : " هَارٍ " أي : ساقط متداع منهال .
قال الليثُ : الهورُ : مصدر هَارَ الجُرفُ يهورُ ، إذا انصدَعَ من خلفه ، وهو ثابتٌ بعدُ في مكانه ، وهو جرفٌ هارٍ أي : هائر ، فإذا سقط ؛ فقد انهارَ وتَهيَّر . ومعناه السَّاقط الذي يتداعى بعضه في أثر بعض كما ينهار الرَّمل والشيء الرخو .
قوله : " فانهار " فاعله إمَّا ضميرُ البنيان ، والهاءُ في " به " على هذا ضمير المؤسس الباني أي : فسقط بنيان الباني على شفا جرفٍ هار ، وإمَّا ضمير الشَّفَا ، وإمَّا ضمير الجرف أي : فسقط الشَّفَا ، أو سقط الجرفُ ، والهاء في " بِهِ " للبنيان ، ويجوز أن يكون للباني المؤسس . والأولى أن يكون الفاعل ضميرَ الجرف ؛ لأنَّهُ يلزمُ من انهياره انهيارُ الشَّفَا والبنيان جميعاً ، ولا يلزمُ من انهيارهما أو انهيار أحدهما انيهارهُ . والباءُ في " به " يجوز أن تكون المعدِّية ، وأن تكون التي للمصاحبة ، وقد تقدَّم الخلاف في أول الكتاب أنَّ المعدِّيةَ عند بعضهم تستلزم المصاحبة . وإذا قيل إنَّها للمصاحبة هنا ؛ فتتعلقُ بمحذوفٍ ؛ لأنَّها حال أي : فانهار مصاحباً له .
معنى الآية : أفمَنْ أسَّس بنيان دينه على قاعدةٍ قويَّة محكمة وهو الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه خير ، أمَّنْ أسَّسَ على قاعدة هي أضعف القواعد وأقلها بقاء ، وهو الباطلُ والنِّفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار من أودية جهنم ؟ وكونه شفا جرف هار كان مشرفاً على السُّقوط ولكونه على طرف جهنم ، كان إذا انهار فإنَّما ينهار في قعر جهنم ، فالمعنى أنَّ أحد البنائين قصد بانيه ببنائه تقوى الله ورضوانه ، والبناء الثاني قصد بانيه ببنائه المعصية والكفر فكان البناء الأول شريفاً واجب الإبقاء ، والبناء الثاني خسيساً واجب الهدم ؛ فلا يرى مثال أخس مطابقة لأمر المنافقين من هذا المثال ، { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.