{ 17 - 20 } { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ * وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ * فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ }
لما ذكر تعالى خلق الآدمي ، ذكر سكنه ، وتوفر النعم عليه من كل وجه فقال : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ } سقفا للبلاد ، ومصلحة للعباد { سَبْعَ طَرَائِقَ } أي : سبع سماوات طباقا ، كل طبقة فوق الأخرى ، قد زينت بالنجوم والشمس والقمر ، وأودع فيها من مصالح الخلق ما أودع ، { وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ } فكما أن خلقنا عام لكل مخلوق ، فعلمنا أيضا محيط بما خلقنا ، فلا نغفل مخلوقا ولا ننساه ، ولا نخلق خلقا فنضيعه ، ولا نغفل عن السماء فتقع على الأرض ، ولا ننسى ذرة في لجج البحار وجوانب الفلوات ، ولا دابة إلا سقنا إليها رزقها { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا } وكثيرا ما يقرن تعالى بين خلقه وعلمه كقوله : { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } { بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } لأن خلق المخلوقات ، من أقوى الأدلة العقلية ، على علم خالقها وحكمته .
( ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين ) . .
والطرائق هي الطبقات بعضها فوق بعض . أو وراء بعض . وقد يكون المقصود هنا سبع مدارات فلكية . أو سبع مجموعات نجمية كالمجموعة الشمسية . أو سبع كتل سديمية . والسدم - كما يقول الفلكيون - هي التي تكون منها المجموعات النجمية . . وعلى أية حال فهي سبع خلائق فلكية فوق البشر - أي إن مستواها أعلى من مستوى الأرض في هذا الفضاء - خلقها الله بتدبير وحكمة ، وحفظها بناموس ملحوظ : ( وما كنا عن الخلق غافلين ) . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ } .
يقول تعالى ذكره : ولقد خلقنا فوقكم أيها الناس سبع سموات بعضهنّ فوق بعض والعرب تسمي كل شيء فوق شيء طريقة . وإنما قيل للسموات السبع سبع طرائق ، لأن بعضهنّ فوق بعض ، فكل سماء منهنّ طريقة .
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ قال : الطرائق : السموات .
وقوله : وَما كُنّا عَنِ الخَلْقِ غافِلينَ يقول : وما كنا في خلقنا السموات السبع فوقكم عن خلقنا الذي تحتها غافلين ، بل كنا لهم حافظين من أن تسقط عليهم فتهلكهم .
انتقال من الاستدلال بخلق الإنسان إلى الاستدلال بخلق العوالم العلوية لأن أمرها أعجب ، وإن كان خلق الإنسان إلى نظره أقرب ، فالجملة عطف على جملة { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } [ المؤمنون : 12 ] وإنما ذكر هذا عقب قوله : { ثم إنكم يوم القيامة تُبعثون } [ المؤمنون : 16 ] للتنبيه على أن الذي خلق هذا العالم العلوي ما خلقه إلاّ لحكمة ، وأن الحكيم لا يهمل ثواب الصالحين على حسناتهم ، ولا جزاء المسيئين على سيئاتهم ، وأن جعْله تلك الطرائق فوقنا بحيث نراها ليدلنا على أن لها صلة بنا لأن عالم الجزاء كائن فيها ومخلوقاته مُستقرة فيها ، فالإشارة بهذا الترتيب مثل الإشارة بعكسه في قوله : { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلاّ بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون إنّ يوم الفصل ميقاتهم أجمعين } [ الدخان : 38 40 ] .
والطرائق : جمع طريقة وهي اسم للطريق تذكر وتؤنث ، والمراد بها هنا طرائق سير الكواكب السبعة وهي أفلاكها ، أي الخطوط الفرضية التي ضَبط الناس بها سُمُوتَ سَيْر الكواكب ، وقد أطلق على الكوكب اسم الطارق في قوله تعالى : { والسماء والطارق } [ الطارق : 1 ] من أجل أنه ينتقل في سمت يسمى طريقة فإن الساير في طريق يقال له : طارق ، ولا شك أن الطرائق تستلزم سائرات فيها ، فكان المعنى : خلقنا سيَّارات وطرائقها .
وذِكر { فوقكم } للتنبيه على وجوب النظر في أحوالها للاستدلال بها على قدرة الخالق لها تعالى فإنها بحالة إمكان النظر إليها والتأمل فيها .
ولأن كونها فوق الناس مما سهل انتفاعهم بها في التوقيت ولذلك عقب بجملة { وما كنا عن الخلق غافلين } المشعر بأن في ذلك لطفاً بالخلق وتيسيراً عليهم في شؤون حياتهم ، وهذا امتنان ، فالواو في جملة { وما كنا عن الخلق غافلين } للحال ، والجملة في موضع الحال ، وفيه تنبيه للنظر في أن عالم الجزاء كائن بتلك العوالم قال تعالى : { وفي السماء رزقكم وما توعدون } [ الذاريات : 22 ] .
والخلق مفعول سمي بالمصدر ، أي ما كنا غافلين عن حاجة مخلوقاتنا يعني البشر ، ونفي الغفلة كناية عن العناية والملاحظة ، فأفاد ذلك أن في خلق الطرائق السماوية لِمَا خلقت له لطفاً بالناس أيضاً إذ كان نظام خلقها صالحاً لانتفاع الناس به في مواقيتهم وأسفارهم في البر والبحر كما قال : { وهو الذي جعل لكمُ النجوم لِتَهْتَدُوا بها في ظُلُمَاتِ البر والبحر } [ الأنعام : 97 ] . وأعظم تلك الطرائق طريقة الشمس مع ما زادت به من النفع بالإنارة وإصلاح الأرض والأجساد ، فصار المعنى : خلقنا فوقكم سبع طرائق لحكمة لا تعلمونها وما أهملنا في خلقها رعْيَ مصالحكم أيضاً .
والعدول عن الإضمار إلى الإظهار في قوله : { وما كنا عن الخلق غافلين } دون أن يقال : وما كنا عنكم غافلين ، لما يفيده المشتق من معنى التعليل ، أي ما كنا عنكم غافلين لأنكم مخلوقاتنا فنحن نعاملكم بوصف الربوبيَّة ، وفي ذلك تنبيه على وجوب الشكر والإقلاع عن الكفر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.