فحينئذ قال الله : { يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ } أي : أسماء المسميات التي عرضها الله على الملائكة ، فعجزوا عنها ، { فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ } تبين للملائكة فضل آدم عليهم ، وحكمة الباري وعلمه في استخلاف هذا الخليفة ، { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وهو ما غاب عنا ، فلم نشاهده ، فإذا كان عالما بالغيب ، فالشهادة من باب أولى ، { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ } أي : تظهرون { وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }
{ قَالَ يَاآدَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لّكُمْ إِنِيَ أَعْلَمُ غَيْبَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }
قال أبو جعفر : إن الله جل ثناؤه عرّف ملائكته الذين سألوه أن يجعلهم الخلفاء في الأرض ووصفوا أنفسهم بطاعته والخضوع لأمره دون غيرهم الذين يفسدون فيها ويسفكون الدماء ، أنهم من الجهل بمواقع تدبيره ومحل قضائه ، قبل إطلاعه إياهم عليه ، على نحو جهلهم بأسماء الذين عرضهم عليهم ، إذْ كان ذلك مما لم يعلمهم فيعلموه ، وأنهم وغيرهم من العباد لا يعلمون من العلم إلا ما علمهم إياه ربهم ، وأنه يخصّ بما شاء من العلم من شاء من الخلق ويمنعه منهم من شاء كما علم آدم أسماء ما عرض على الملائكة ومنعهم من علمها إلا بعد تعليمه إياهم .
فأما تأويل قوله : قالَ يا آدَمُ أنْبِئْهُمْ يقول : أخبر الملائكة . والهاء والميم في قوله : أنْبِئْهُمْ عائدتان على الملائكة ، وقوله : بِأسْمَائِهِمْ يعني بأسماء الذين عرضهم على الملائكة . والهاء والميم اللتان في «أسمائهم » كناية عن ذكر هؤلاء التي في قوله : أنْبِئُونِي بِأسْمَاءِ هَؤلاءِ . فلما أنباهم يقول : فلما أخبر آدم الملائكة بأسماء الذين عرضهم عليهم ، فلم يعرفوا أسماءهم ، وأيقنوا خطأ قيلهم : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدّماءَ ونَحْن نَسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ وأنهم قد هفوا في ذلك وقالوا : ما لا يعلمون كيفية وقوع قضاء ربهم في ذلك ، لو وقع على ما نطقوا به ، قال لهم ربهم : ألَمْ أَقُلْ لَكُمْ إنّي أعْلَمُ غَيْبَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ والغيب : هو ما غاب عن أبصارهم فلم يعاينوه توبيخا من الله جل ثناؤه لهم بذلك على ما سلف من قيلهم وفرط منهم من خطأ مسألتهم ، كما :
حدثنا به محمد بن العلاء ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك عن ابن عباس : قالَ يا آدَمُ أنْبِئْهُمْ بِأسْمَائِهِمْ يقول : أخبرهم بأسمائهم ، فَلَمّا أنْبَأهُمْ بِأسْمَائِهِمْ قالَ ألَمْ أقُلْ لَكُمْ أيها الملائكة خاصة إني أعْلَمُ غَيْبَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ ولا يعلمه غيري .
وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قصة الملائكة وآدم ، فقال الله للملائكة : كما لم تعلموا هذه الأسماء فليس لكم علم ، إنما أردت أن أجعلهم ليفسدوا فيها ، هذا عندي قد علمته فكذلك أخفيت عنكم أني أجعل فيها من يعصيني ومن يطيعني . قال : وسبق من الله : لأمْلأَنّ جَهَنّمَ مِنَ الجِنّةِ والنّاسِ أجْمَعِينَ قال : ولم تعلم الملائكة ذلك ولم يدروه . قال : فلما رأوا ما أعطى الله آدم من العلم أقرّوا لاَدم بالفضل .
القول في تأويل قوله تعالى : وأعُلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكتُمُونَ .
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فروى عن ابن عباس في ذلك ما :
حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : وأعْلَمُ ما تُبْدُون يقول : ما تظهرون وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ يقول : أعلم السرّ كما أعلم العلانية . يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار .
وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : وَأعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ قال قولهم : أتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها فهذا الذي أبدوا ، وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ يعني ما أسرّ إبليس في نفسه من الكبر .
وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا عمرو بن ثابت ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير قوله : وأعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ قال : ما أسرّ إبليس في نفسه .
وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان في قوله : وأعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمونَ قال : ما أسرّ إبليس في نفسه من الكبر أن لا يسجد لاَدم .
وحدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : أخبرنا الحجاج الأنماطي ، قال : حدثنا مهدي بن ميمون ، قال : سمعت الحسن بن دينار ، قال للحسن ونحن جلوس عنده في منزله : يا أبا سعيد أرأيت قول الله للملائكة : وأعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ما الذي كتمت الملائكة ؟ فقال الحسن : إن الله لما خلق آدم رأت الملائكة خلقا عجيبا ، فكأنهم دخلهم من ذلك شيء ، فأقبل بعضهم إلى بعض ، وأسرّوا ذلك بينهم ، فقالوا : وما يهمكم من هذا المخلوق إن الله لم يخلق خلقا إلا كنا أكرم عليه منه .
وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وأعْلَم ما تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ قال : أسرّوا بينهم فقالوا : يخلق الله ما يشاء أن يخلق ، فلن يخلق خلقا إلا ونحن أكرم عليه منه .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : وَأعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فكان الذي أبدوا حين قالوا : أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فيها وكان الذي كتموا بينهم قولهم : لن يخلق ربنا خلقا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم . فعرفوا أن الله فضل عليهم آدم في العلم والكرم .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله ابن عباس ، وهو أن معنى قوله : وأعْلَمُ ما تُبْدُونَ وأعلم مع علمي غيب السموات والأرض ما تظهرون بألسنتكم وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وما كنتم تخفونه في أنفسكم ، فلا يخفى عليّ شيء سواء عندي سرائركم وعلانيتكم . والذي أظهروه بألسنتهم ما أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوه ، وهو قولهم : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ ، والذي كانوا يكتمونه ما كان منطويا عليه إبليس من الخلاف على الله في أمره والتكبر عن طاعته لأنه لا خلاف بين جميع أهل التأويل أن تأويل ذلك غير خارج من أحد الوجهين اللذين وصفت ، وهو ما قلنا . والاَخر ما ذكرنا من قول الحسن وقتادة .
ومن قال : إن معنى ذلك كتمان الملائكة بينهم لن يخلق الله خلقا إلا كنا أكرم عليه منه فإذْ كان لا قول في تأويل ذلك إلا أحد القولين اللذين وصفت ثم كان أحدهما غير موجودة على صحته الدلالة من الوجه الذي يجب التسليم له صحّ الوجه الاَخر .
فالذي حكي عن الحسن وقتادة ومن قال بقولهما في تأويل ذلك غير موجودة الدلالة على صحته من الكتاب ولا من خبر يجب به حجة . والذي قاله ابن عباس يدلّ على صحته خبر الله جل ثناؤه عن إبليس وعصيانه إياه إذ دعاه إلى السجود لاَدم ، فأتى واستكبر ، وإظهاره لسائر الملائكة من معصيته وكبره ما كان له كاتما قبل ذلك .
فإن ظنّ ظانّ أن الخبر عن كتمان الملائكة ما كانوا يكتمونه لما كان خارجا مخرج الخبر عن الجميع ، كان غير جائز أن يكون ما رُوي في تأويل ذلك عن ابن عباس ومن قال بقوله من أن ذلك خبر عن كتمان إبليس الكبر والمعصية صحيحا ، فقد ظنّ غير الصواب ، وذلك أن من شأن العرب إذا أخبرت خبرا عن بعض جماعة بغير تسمية شخص بعينه أن تخرج الخبر عنه مخرج الخبر عن جميعهم ، وذلك كقولهم : قتل الجيش وهزموا ، وإنما قتل الواحد أو البعض منهم ، وهزم الواحد أو البعض ، فتخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج الخبر عن جميعهم كما قال جل ثناؤه : إنّ الّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أكْثُرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ذكر أن الذي نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية فيه ، كان رجلاً من جماعة بني تميم ، كانوا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأخرج الخبر عنه مخرج الخبر عن الجماعة ، فكذلك قوله : وأعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ أخرج الخبر مخرج الخبر عن الجميع ، والمراد به الواحد منهم .
{ قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم } أي أعلمهم وقرئ بقلب الهمزة ياء وحذفها بكسر الهاء فيهما .
{ فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون } استحضار لقوله تعالى : { إني أعلم ما لا تعلمون } لكنه جاء به على وجه أبسط ليكون كالحجة عليه ، فإنه تعالى لما علم ما خفي عليهم من أمور السموات والأرض ، وما ظهر لهم من أحوالهم الظاهرة والباطنة علم ما لا يعلمون ، وفيه تعريض بمعاتبتهم على ترك الأولى ، وهو أن يتوقفوا مترصدين لأن يبين لهم ، وقيل : { ما تبدون } قولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها . وما { تكتمون } استبطانهم أنهم أحقاء بالخلافة ، وأنه تعالى لا يخلق خلقا أفضل منهم وقيل : ما أظهروا من الطاعة ، وأسر إبليس منهم من المعصية ، والهمزة للإنكار دخلت حرف الجحد فأفادت الإثبات والتقرير .
واعلم أن هذه الآيات تدل على شرف الإنسان ، ومزية العلم وفضله على العبادة ، وأنه شرط في الخلافة بل العمدة فيها ، وأن التعليم يصح إسناده إلى الله تعالى ، وإن لم يصح إطلاق المعلم عليه لاختصاصه بمن يحترف به ، وأن اللغات توقيفية ، فإن الأسماء تدل على الألفاظ بخصوص أو عموم ، وتعليمها ظاهر في إلقائها على المتعلم مبينا له معانيها ، وذلك يستدعي سابقة وضع ، والأصل ينفي أن يكون ذلك الوضع ممن كان قبل آدم فيكون من الله سبحانه وتعالى ، وأن مفهوم الحكمة زائد على مفهوم العلم وإلا لتكرر قوله : { إنك أنت العليم الحكيم } وأن علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة ، والحكماء منعوا ذلك في الطبقة العليا منهم ، وحملوا عليه قوله تعالى : { وما منا إلا له مقام معلوم } وأن آدم أفضل من هؤلاء الملائكة لأنه أعلم منهم ، والأعلم أفضل لقوله تعالى : { هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } وأنه تعالى يعلم الأشياء قبل حدوثها .
{ قَالَ يَاءَادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ } .
لما دخل هذا القول في جملة المحاورة جردت الجملة من الفاء أيضاً كما تقدم في نظائره لأنه وإن كان إقبالاً بالخطاب على غير المخاطَبين بالأقوال التي قبله فهو بمثابة خطاب لهم لأن المقصود من خطاب آدم بذلك أن يَظهر عقبَه فضلُه عليهم في العلم من هاته الناحية فكانَ الخطاب بمنزلة أن يكون مسوقاً إليهم لقوله عقب ذلك : { قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض } .
وابتداء خطاب آدم بندائه مع أنه غير بعيد عن سماع الأمر الإلهي للتنويه بشأن آدم وإظهار اسمه في الملأ الأعلى حتى ينال بذلك حسن السمعة مع ما فيه من التكريم عند الآمر لأن شأن الآمر والمخاطِب بالكسر إذا تلطف مع المخاطَب بالفتح أن يذكر اسمه ولا يقتصر على ضمير الخطاب حتى لا يساوي بخطابه كل خطاب ، ومنه ما جاء في حديث الشفاعة بعد ذكر سجود النبيء وحمده الله بمحامد يلهمه إياها فيقول : « يا محمد ارفع رأسك سل تُعْطَ واشفع تشفَّع » وهذه نكتة ذكر الاسم حتى في أثناء المخاطبة كما قال امرؤ القيس :
* أفاطم مهلاً بعضَ هذا التدلل *
وربما جعلوا النداء طريقاً إلى إحضار اسمه الظاهر لأنه لا طريق لإحضاره عند المخاطبة إلا بواسطة النداء فالنداء على كل تقدير مستعمل في معناه المجازي .
{ فَلَمَّآ أَنبَأَهُم بِأَسْمَآئِهِم } .
الإنباء إخبارهم بالأسماء ، وفيه إيماء بأن المخبر به شيء مهم . والضمير المجرور بالإضافة ضمير المسميات مثل ضمير { عرضهم } ، وفي إجرائه على صيغة ضمائر العقلاء ما قرر في قوله : { ثم عرضهم } [ البقرة : 31 ] .
وقوله : { فلما أنبأهم بأسمائهم } الضمير في { أنبأ } لآدم وفي { قال } ضمير اسم الجلالة وإنما لم يؤت بفاعله اسماً ظاهراً مع أنه جرى على غير من هو له أي عقب ضمائر آدم في قوله : { أنبئهم } و { أنبأهم } لأن السياق قرينة على أن هذا القول لا يصدر من مثل آدم .
{ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إني أَعْلَمُ غَيْبَ السموات والارض } .
جواب { لما } والقائل هو الله تعالى وهو المذكور في قوله : { وإذ قال ربك } [ البقرة : 30 ] وعادت إليه ضمائر { قال إني أعلم } [ البقرة : 30 ] و { علّم } [ البقرة : 31 ] و { عرضهم } وما قبله من الضمائر وهو تذكير لهم بقوله لهم في أول المحاورة : { إني أعلم ما لا تعلمون } وذلك القول وإن لم يكن فيه : { أعلم غيب السموات والأرض } صراحة إلا أنه يتضمنه لأن عموم { ما لا تعلمون } يشمل جميع ذلك فيكون قوله هنا : { إني أعلم غيب السموات والأرض } بياناً لما أجمل في القول الأول لأنه يساويه ما صدقا لأن { ما لا تعلمون } هو غيب السموات والأرض وقد زاد البيان هنا على المبين بقوله :
{ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } .
وإنما جيء بالإجمال قبل ظهور البرهان وجيء بالتفصيل بعد ظهوره على طريقة الحِجاج وهو إجمال الدعوى وتفصيل النتيجة لأن الدعوى قبل البرهان قد يتطرقها شك السامع بأن يحملها على المبالغة ونحوها وبعد البرهان يصح للمدعى أن يوقف المحجوج على غلطه ونحوه وأن يتبجح عليه بسلطان برهانه فإن للحق صولة . ونظيره قول صاحب موسى : { سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً أما السفينة } [ الكهف : 78 ، 79 ] إلى قوله : { وما فعلته عن أمري } [ الكهف : 82 ] ثم قال : { ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً } [ الكهف : 82 ] . فجاء باسم إشارة البعيد تعظيماً للتأويل بعد ظهوره . وهذه طريقة مسلوكة للكتاب والخطباء وهي ترجع إلى قاعدة أخذ النتائج من المقدمات في صناعة الإنشاء كما بينته في كتاب « أصول الإنشاء والخطابة » وأكثر الخطباء يفضي إلى الغرض من خطبته بعد المقدمات والتمهيدات وقد جاءت الآية على طريقة الخطباء والبلغاء فيما ذكرنا تعليماً للخلق وجرياً على مقتضى الحال المتعارف من غير مراعاة لجانب الألوهية فإن الملائكة لا يمترون في أن قوله تعالى الحق ووعده الصدق فليسوا بحاجة إلى نصب البراهين .
و { كُنتُمْ } في قوله : { وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } الأظهر أنها زائدة لتأكيد تحقق الكتمان فإن الذي يعلم ما اشتد كتمانه يعلم ما لم يحرص على كتمانه ويعلم ظواهر الأحوال بالأولى .
وصيغة المضارع في { تُبْدُونَ } و{ تَكْتُمُونَ } للدلالة على تجدد ذلك منهم فيقتضي تجدد علم الله بذلك كلما تجدد منهم .
ولبعضهم هنا تكلفات في جعل { كنتم } للدلالة على الزمان الماضي وجعل { تبدون } للاستقبال وتقدير اكتفاء في الجانبين أعني وما كنتم تبدون وما تكتمون واكتفاء في غيب السماوات والأرض يعني وشهادتهما وكل ذلك لا داعي إليه .
وقد جعل الله تعالى علم آدم بالأسماء وعجز الملائكة عن ذلك علامة على أهلية النوع البشري لخلافته في الأرض دون الملائكة لأن الخلافة في الأرض هي خلافة الله تعالى في القيام بما أراده من العُمران بجميع أحواله وشعبه بمعنى أن الله تعالى ناط بالنوع البشري إتمام مراده من العالم فكان تصرف هذا النوع في الأرض قائماً مقام مباشرة قدرة الله تعالى بجميع الأعمال التي يقوم بها البشر ، ولا شك أن هذه الخلافة لا تتقوم إلا بالعلم أعني اكتساب المجهول من المعلوم وتحقيق المناسبة بين الأشياء ومواقعها ومقارناتها وهو العلم الاكتسابي الذي يدرك به الإنسان الخير والشر ويستطيع به فعل الخير وفعل الشر كل في موضعه ولا يصلح لهذا العِلم إلا القوةُ الناطقة وهي قوة التفكير التي أجلَى مظاهرها معرفة أسماء الأشياء وأسماء خصائصها والتي تستطيع أن تصدر الأضداد من الأفعال لأن تلك القوة هي التي لا تنحصر متعلقاتها ولاتقف معلوماتها كما شوهد من أحوال النوع الإنساني منذ النشأة إلى الآن وإلى ما شاء الله تعالى . والملائكة لما لم يخلقوا متهيئين لذلك حتى أَعْجَزَهم وضع الأسماء للمسميات وكانوا مجبولين على سجية واحدة وهي سجية الخير التي لا تختلف ولا تتخلف لم يكونوا مؤهلين لاستفادة المجهولات من المعلومات حتى لا تقف معارفهم .
ولم يكونوا مصادر للشرور التي يتعين صدورها لإصلاح العالم فخيرتهم وإن كانت صالحة لاستقامة عالمهم الطاهر لم تكن صالحة لنظام عالم مخلوط ، وحكمة خلطه ظهور منتهى العلم الإلهي كما قال أبو الطيب :
ووضع الندى في موضع السيف بالعُلا ***مضرٌّ كوضع السيف في موضع الندَى
والآية تقتضي مزية عظمى لهذا النوع في هذا الباب وفي فضل العلم ولكنها لا تدل على أفضلية النوع البشري على الملائكة إذ المزية لا تقتضي الأفضلية كما بينه الشهاب القراقي في الفرق الحادي والتسعين فهذه فضيلة من ناحية واحدة وإنما يعتمد التفضيل المطلق مجموعَ الفضائل كما دل عليه حديث موسى والخضر .
والاستفهام في قوله : { ألم أقل لكم } إلخ تقريري لأن ذلك القول واقع لا محالة والملائكة لا يعلمون وقوعه ولا ينكرونه . وإنما أوقع الاستفهام على نفي القول لأن غالب الاستفهام التقريري يقحم فيه ما يفيد النفي لقصد التوسيع على المقرَّر حتى يُخيَّل إليه أنه يُسأل عن نفي وقوع الشيء فإن أراد أن يزعم نفيه فقد وسَّع المقرِّر عليه ذلك ولكنه يتحقق أنه لا يستطيع إنكاره فلذلك يقرره على نفيه ، فإذا أقر كان إقراره لازماً له لا مناص له منه . فهذا قانون الاستفهام التقريري الغالب عليه وهو الذي تكرر في القرآن وبنى عليه صاحب « الكشاف » معاني آياته التي منها قوله تعالى : { ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } [ البقرة : 106 ] وتوقف فيه ابن هشام في « مغني اللبيب » ورده عليه شارحه . وقد يقع التقرير بالإثبات على الأصل نحو : { أأنت قلتَ للناس } [ المائدة : 116 ] وهو تقرير مُراد به إبطال دعوى النصارى ، وقوله : { قالوا أأنت فعلتَ هذا بآلهتنا يا إبراهيم } [ الأنبياء : 62 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
إن الله جل ثناؤه عرّف ملائكته الذين سألوه أن يجعلهم الخلفاء في الأرض ووصفوا أنفسهم بطاعته والخضوع لأمره دون غيرهم الذين يفسدون فيها ويسفكون الدماء، أنهم من الجهل بمواقع تدبيره ومحل قضائه، قبل إطلاعه إياهم عليه، على نحو جهلهم بأسماء الذين عرضهم عليهم، إذْ كان ذلك مما لم يعلمهم فيعلموه، وأنهم وغيرهم من العباد لا يعلمون من العلم إلا ما علمهم إياه ربهم، وأنه يخصّ بما شاء من العلم من شاء من الخلق ويمنعه منهم من شاء كما علم آدم أسماء ما عرض على الملائكة ومنعهم من علمها إلا بعد تعليمه إياهم.
"قالَ يا آدَمُ أنْبِئْهُمْ "يقول: أخبر الملائكة. والهاء والميم في قوله: "أنْبِئْهُمْ" عائدتان على الملائكة، "بِأسْمَائِهِمْ" يعني بأسماء الذين عرضهم على الملائكة. والهاء والميم اللتان في «أسمائهم» كناية عن ذكر هؤلاء التي في قوله: "أنْبِئُونِي بِأسْمَاءِ هَؤلاءِ".
"فلما أنباهم" يقول: فلما أخبر آدم الملائكة بأسماء الذين عرضهم عليهم، فلم يعرفوا أسماءهم، وأيقنوا خطأ قيلهم: "أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدّماءَ ونَحْن نَسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ" وأنهم قد هفوا في ذلك وقالوا: ما لا يعلمون كيفية وقوع قضاء ربهم في ذلك، لو وقع على ما نطقوا به، قال لهم ربهم: "ألَمْ أَقُلْ لَكُمْ إنّي أعْلَمُ غَيْبَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ" والغيب: هو ما غاب عن أبصارهم فلم يعاينوه توبيخا من الله جل ثناؤه لهم بذلك على ما سلف من قيلهم وفرط منهم من خطأ مسألتهم...
عن ابن عباس: "قالَ يا آدَمُ أنْبِئْهُمْ بِأسْمَائِهِمْ" يقول: أخبرهم بأسمائهم، "فَلَمّا أنْبَأهُمْ بِأسْمَائِهِمْ قالَ ألَمْ أقُلْ لَكُمْ" أيها الملائكة خاصة: "إني أعْلَمُ غَيْبَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ" ولا يعلمه غيري...
قال ابن زيد في قصة الملائكة وآدم، فقال الله للملائكة: كما لم تعلموا هذه الأسماء فليس لكم علم، إنما أردت أن أجعلهم ليفسدوا فيها، هذا عندي قد علمته فكذلك أخفيت عنكم أني أجعل فيها من يعصيني ومن يطيعني. قال: وسبق من الله: "لأمْلأَنّ جَهَنّمَ مِنَ الجِنّةِ والنّاسِ أجْمَعِينَ" قال: ولم تعلم الملائكة ذلك ولم يدروه. قال: فلما رأوا ما أعطى الله آدم من العلم أقرّوا لاَدم بالفضل...
"وأعلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكتُمُونَ": اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك...
[ف] عن ابن عباس: "وأعْلَمُ ما تُبْدُون" يقول: ما تظهرون. "وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ" يقول: أعلم السرّ كما أعلم العلانية. يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار...
[و] عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "وَأعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ" قولهم: "أتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها" فهذا الذي أبدوا، "وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ" يعني ما أسرّ إبليس في نفسه من الكبر...
[وعن] سفيان في قوله: "وأعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمونَ" قال: ما أسرّ إبليس في نفسه من الكبر أن لا يسجد لاَدم...
والذي أظهروه بألسنتهم ما أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم قالوه، وهو قولهم: "أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ"، والذي كانوا يكتمونه ما كان منطويا عليه إبليس من الخلاف على الله في أمره والتكبر عن طاعته...
[و] عن الربيع بن أنس: "وَأعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ" فكان الذي أبدوا حين قالوا: أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فيها" وكان الذي كتموا بينهم قولهم: لن يخلق ربنا خلقا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم. فعرفوا أن الله فضل عليهم آدم في العلم والكرم.
والذي قاله ابن عباس يدلّ على صحته خبر الله جل ثناؤه عن إبليس وعصيانه إياه إذ دعاه إلى السجود لاَدم، فأبى واستكبر، وإظهاره لسائر الملائكة من معصيته وكبره ما كان له كاتما قبل ذلك...
اعلم أن في هذه الآية خوفا عظيما وفرحا عظيما أما الخوف فلأنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أحوال الضمائر فيجب أن يجتهد المرء في تصفية باطنه وأن لا يكون بحيث يترك المعصية لاطلاع الخلائق عليها ولا يتركها عند اطلاع الخالق عليها...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فلما قالوا ذلك وأراد إشهادهم فضل آدم عليه السلام، استأنف في جواب من كأنه قال: ما قال لهم عند ذلك؟ قوله: {قال} مظهراً لفضيلة العلم الموجبة لشرف العالم {يا آدم أنبئهم} أي ليزدادوا بصيرة في أن العالم من علّمته والسعيد من أسعدته في أي صورة ركبته {بأسمائهم} فأنبأهم بها. قال الحرالي: ولم يقل: علمهم، فكان آدم عليماً بالأسماء وكانوا هم مخبرين بها لا معلميها، لأنه لا يتعلمها من آدم إلا من خلقه محيط كخلق آدم، ليكون من كل شيء ومنه كل شيء، فإذا عرض عليه شيء مما منه آنس علمه عنده؛ فلذلك اختصوا بالإنباء دون التعليم، فلكل شيء عند آدم عليه السلام بما علمه الله وأظهر له علاماته في استبصاره الشيء اسمان جامعان: اسم يبصّره من موجود الشيء، واسم يذكره لإبداء معنى ذلك الشيء إلى غاية حقيقته، ولكل اسم جامع عنده وجوه متعددة يحاذي كلَّ وجه منها بتسمية تخصه، وبحسب تلك الوجوه تكثرت عنده الألسنة، وتكثرت الألسن الأعجمية، فأفصحها وأعربها الاسم الجامع، وذلك الاسم هو العربي الذي به أنزل خاتم الكتب على خاتم المرسلين، وأبقى دائماً في مخاطبة أهل الجنة لمطابقة الخاتمة إحاطة البادئة.
السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :
هذه الآيات وهي آية {وعلم آدم} وآية {سبحانك} وآية {قال يا آدم} تدل على شرف الإنسان ومزية العلم وفضله على العبادة، وإلا لأظهر فضل آدم بها،
وأن العلم بما يستخلف فيه شرط في الخلافة بل العمدة فيها،
وأن التعليم يصح إسناده إلى الله تعالى وإن لم يصح إطلاق المعلم عليه لاختصاصه بمن يحترف به.
وأنّ مفهوم الحكمة زائد على مفهوم العلم لتغاير المتعاطفين وإلا لتكرر قوله: {إنك أنت العليم الحكيم}.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم} فكان الإنباء كما أراد الله تعالى، وذكره لأجل ترتيب الحكم عليه بقوله {فلما أنبأهم بأسمائهم قال} الله تعالى للملائكة: {ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض}. ومن كان هذا شأنه، فلا يخلق شيئا سدى، ولا يجعل الخليفة في الأرض عبثا.
{وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون}: والذي يبدونه هو ما يظهر أثره في نفوسهم، وأما ما يكتمون فهو ما يوجد في غرائزهم وتنطوي عليه طبائعهم.
وقد علم مما تقدم أن كل هذه الأقوال والمراجعات والمناظرات يفوض السلف الأمر إلى الله تعالى في معرفة حقيقتها، ويكتفون بمعرفة فائدتها وحكمتها، وقد تقدم بيان ذلك. وأما الخلف فيلجؤون إلى التأويل، وأمثل طرقه في هذا المقام التمثيل... وقد مضت سنة الله في كتابه بأن يبرز لنا الأشياء المعنوية، في قوالب العبارة اللفظية، ويجلى لنا المعارف المعقولة، بالصور المحسوسة، تقريبا للأفهام، وتسهيلا للإعلام، ومن ذلك أنه عرفنا بهذه القصة قيمة أنفسنا، وما أودعته فطرتنا، مما نمتاز على غيرنا من المخلوقات، فعلينا أن نجتهد في تكميل أنفسنا بالعلوم التي خلقنا مستعدين لها من دون الملائكة وسائر الخلق لتظهر حكمة الله فينا، ولعلنا نشرف على معنى إعلام الله الملائكة بفضلنا، ومعنى سجودهم لأصلنا {24: 35 ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون}...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{قَالَ يَاءَادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ}.
وابتداء خطاب آدم بندائه مع أنه غير بعيد عن سماع الأمر الإلهي للتنويه بشأن آدم وإظهار اسمه في الملأ الأعلى حتى ينال بذلك حسن السمعة مع ما فيه من التكريم عند الآمر لأن شأن الآمر والمخاطِب بالكسر إذا تلطف مع المخاطَب بالفتح أن يذكر اسمه ولا يقتصر على ضمير الخطاب حتى لا يساوي بخطابه كل خطاب، ومنه ما جاء في حديث الشفاعة بعد ذكر سجود النبيء وحمده الله بمحامد يلهمه إياها فيقول: « يا محمد ارفع رأسك سل تُعْطَ واشفع تشفَّع» وهذه نكتة ذكر الاسم حتى في أثناء المخاطبة.
{وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}. وإنما جيء بالإجمال قبل ظهور البرهان وجيء بالتفصيل بعد ظهوره على طريقة الحِجاج وهو إجمال الدعوى وتفصيل النتيجة لأن الدعوى قبل البرهان قد يتطرقها شك السامع بأن يحملها على المبالغة ونحوها وبعد البرهان يصح للمدعى أن يوقف المحجوج على غلطه ونحوه وأن يتبجح عليه بسلطان برهانه فإن للحق صولة...
وقد جاءت الآية على طريقة الخطباء والبلغاء فيما ذكرنا تعليماً للخلق وجرياً على مقتضى الحال المتعارف من غير مراعاة لجانب الألوهية فإن الملائكة لا يمترون في أن قوله تعالى الحق ووعده الصدق فليسوا بحاجة إلى نصب البراهين...
وقد جعل الله تعالى علم آدم بالأسماء وعجز الملائكة عن ذلك علامة على أهلية النوع البشري لخلافته في الأرض دون الملائكة لأن الخلافة في الأرض هي خلافة الله تعالى في القيام بما أراده من العُمران بجميع أحواله وشعبه بمعنى أن الله تعالى ناط بالنوع البشري إتمام مراده من العالم فكان تصرف هذا النوع في الأرض قائماً مقام مباشرة قدرة الله تعالى بجميع الأعمال التي يقوم بها البشر، ولا شك أن هذه الخلافة لا تتقوم إلا بالعلم أعني اكتساب المجهول من المعلوم وتحقيق المناسبة بين الأشياء ومواقعها ومقارناتها وهو العلم الاكتسابي الذي يدرك به الإنسان الخير والشر ويستطيع به فعل الخير وفعل الشر كل في موضعه ولا يصلح لهذا العِلم إلا القوةُ الناطقة وهي قوة التفكير التي أجلَى مظاهرها معرفة أسماء الأشياء وأسماء خصائصها والتي تستطيع أن تصدر الأضداد من الأفعال لأن تلك القوة هي التي لا تنحصر متعلقاتها ولا تقف معلوماتها كما شوهد من أحوال النوع الإنساني منذ النشأة إلى الآن وإلى ما شاء الله تعالى. والملائكة لما لم يخلقوا متهيئين لذلك حتى أَعْجَزَهم وضع الأسماء للمسميات وكانوا مجبولين على سجية واحدة وهي سجية الخير التي لا تختلف ولا تتخلف لم يكونوا مؤهلين لاستفادة المجهولات من المعلومات حتى لا تقف معارفهم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ويبقى سؤالان في هذا المجال، الأوّل يدور حول تعليم الله لآدم، كيف تمّ ذلك؟ ولو قُدّر أن يكون هذا التعليم من نصيب الملائكة لنالوا نفس فضيلة آدم، فهل هناك مفخرة يمتلكها آدم ولا تمتلكها الملائكة؟
أما بشأن كيفية التعليم فالجواب هو أن هذا التعليم تكويني، أي إن الله أودع هذا العلم في وجود آدم بالقوة، ودفعه خلال مدّة قصيرة إلى المرحلة الفعلية.
[و] إطلاق كلمة «تعليم» في القرآن على «التعليم التكويني» ورد في موضع آخر من القرآن، كقوله تعالى: (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) وواضح أن الله سبحانه علّم الإِنسان البيان في مدرسة الخلقة، أي منحه الكفاءة والخصائص الفطرية اللازمة للبيان والكلام.
[و] أما الشطر الآخر من هذا السؤال فيتبين جوابه لو علمنا أن الملائكة كانت لهم خلقة خاصة، ما كانت تؤهلهم لتلقي كل هذه العلوم. إنهم مخلوقون لهدف آخر، لا لهذا الهدف، وهذه الحقيقة فهمها الملائكة وتقبلوها بعد أن مرّوا بتلك التجربة المذكورة في الآية. ولعلهم اعتقدوا في البداية أنهم يحملون الكفاءة اللازمة لهذا الهدف، لكن الله بيّن لهم الفرق بين كفاءتهم وكفاءة آدم بتجربة تعليم الأسماء.
[و] أمّا السّؤال الثّاني فيرتبط بالضمير «هم» في قوله تعالى: (ثم عرضهم) و أسمائهم وباسم الإشارة هؤلاء في الآية. فالمعروف أنّ «هم» و«هؤلاء» يستعملان في العاقل، وهذا لا ينسجم مع تفسير «الأسماء» بأنهم أسرار الخلقة وفهم خواص جميع الموجودات. والجواب هو أن استعمال الضمير «هم» واسم الإِشارة «هؤلاء» لا يختص بالعاقل، بل قد يستعملان في جمع مكوّن من عاقل وغير عاقل، وقد يستعملان في جمع غير عاقل. كقوله تعالى: (رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) (1) والضمير «هم» في الآية يعود على الكواكب والشمس والقمر التي رآها يوسف.