الإبداء : الإظهار ، والكتم : الإخفاء .
{ قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم } : نادى آدم باسمه العلم ، وهي عادة الله مع أنبيائه ، قال تعالى : { يا نوح اهبط بسلام منا } { يا نوح إنه ليس من أهلك } { يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا } { يا موسى إني أنا الله } { يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك } ، ونادى محمداً نبينا صلى الله عليه وسلم وعلى سائر الأنبياء بالوصف الشريف من الإرسال والإنباء فقال : { يا أيها الرسول } { يا أيها النبي } فانظر تفاوت ما بين هذا النداء وذاك النداء ، والضمير في أنبئهم عائد إلى الملائكة ، وفي بأسمائهم عائد على المعروضين على الخلاف السابق .
قال القشيري : من آثار العناية بآدم عليه السلام لما قال للملائكة : أنبئوني ، داخلهم من هيبة الخطاب ما أخذهم عنهم ، لاسيما حين طالبهم بإنبائهم إياه ما لم تحط به علومهم .
ولما كان حديث آدم رده في الإنباء إليهم فقال : { أنبئهم بأسمائهم } ، ومخاطبة آدم للملائكة لم توجب الاستغراق في الهيبة .
فلما أخبرهم آدم عليه السلام بأسماء ما تقاصرت عنه علومهم ، ظهرت فضيلته عليهم فقال : { ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات } ، يعني ما تقاصرت عنه علوم الخلق وأعلم ما تبدون من الطاعات وتكتمون من اعتقاد الخيرية على آدم .
والجملة المفتتحة بالقول إذا كانت مرتباً بعضها على بعض في المعنى ، فالأصح في لسان العرب أنها لا يؤتى فيها بحرف ترتب ، اكتفاء بالترتيب المعنوي ، نحو قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها } ، أتى بعده ، { قال إني أعلم } ، ونحو : { قالوا سبحانك } ، { قال يا آدم أنبئهم } ، ونحو :
{ قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله } { قال أنى يحيي هذه الله } ، { قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم } ، { قال بل لبثت مائة عام } { قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } ، { قال فخذ أربعة من الطير } وقد جاء في سورة الشعراء من ذلك عشرون موضعاً في قصة موسى ، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، في إرساله إلى فرعون ومحاورته معه ، ومحاورة السحرة ، إلى آخر القصة ، دون ثلاثة ، جاء منها اثنان جواباً وواحد كالجواب ، ونحو هذا في القرآن كثير .
وقرأ الجمهور : أنبئهم بالهمز وضم الهاء ، وهذا الأصل كما تقول : أكرمهم .
وروي عن ابن عباس : أنبئهم بالهمز وكسر الهاء ، ووجهه أنه أتبع حركة الهاء لحركة الباء ، ولم يعتد بالهمزة لأنها ساكنة ، فهي حاجز غير حصين .
وقرئ : أنبيهم ، بإبدال الهمزة ياء وكسر الهاء .
وقرأ الحسن والأعرج وابن كثير من طريق القواس : أنبهم ، على وزن أعطهم ، قال ابن جني : هذا على إبدال الهمزة ياء ، على أنك تقول : أنبيت ، كأعطيت ، قال : وهذا ضعيف في اللغة لأنه بدل لا تخفيف .
والبدل عندنا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر .
وما ذكر من أنه لا يجوز إلا في ضرورة الشعر ليس بصحيح .
حكى الأخفش في الأوسط : أن العرب تحول من الهمزة موضع اللام ياء ، فيقولون : قريت ، وأخطيت ، وتوضيت ، قال : وربما حولوه إلى الواو ، وهو قليل ، نحو : رفوت ، والجيد : رفأت ، ولم أسمع : رفيت .
ودل ذلك على أنه ليس من ضرائر الشعر ، كما ذكر أبو الفتح ، وهو قوله تعالى : { أنبئهم بأسمائهم } .
وقوله : { فلما أنبأهم بأسمائهم } : جملة محذوفة ، التقدير : فأنبئهم بها ، فلما أنبأهم حذفت لفهم المعنى ، وفي قوله : أنبئوني ، فلما أنبأهم تنبيه على إعلام الله أنه قد أعلم الله أنه قد أعلم آدم من أحوالهم ما لم يعلمهم من حاله ، لأنهم رأوه قبل النفخ مصوراً ، فلم يعلموا ما هو ، وعلى أنه رفع درجة آدم عندهم ، لكونه قد علم لآدم ما لم يعلمهم ، وعلى إقامته مقام المفيد المعلم ، وإقامتهم مقام المستفيدين منه ، لأنه أمره أن يعلمهم أسماء الذين عرضهم عليهم وعلى أدبهم على ترك الأدب من حيث قالوا : { أتجعل فيها } ، فإن الطواعية المحضة ويكونوا مع عدم العلم بالحكمة فيما أمروا به ، وعدم الاطلاع على ذلك الأمر ومصلحته ومفسدته كهم مع العلم والاطلاع .
وكان الامتثال والتسليم ، بغير تعجب ولا استفهام ، أليق بمقامهم لطهارة ذواتهم وكمال صفاتهم .
وفي كتاب بعض من عاصرناه ، قالت المعتزلة : ظهر من آدم عليه السلام في علمه بالأسماء معجزة دالة على نبوته في ذلك الوقت ، والأقرب أنه كان مبعوثاً إلى حواء ، ولا يبعد أن يكون أيضاً مبعوثاً إلى من توجه التحدي إليهم من الملائكة ، لأن جميعهم ، وإن كانوا رسلاً ، فقد يجوز الإرسال إلى الرسول ، كبعثه إبراهيم عليه السلام إلى لوط عليه السلام ، واحتجوا بكونه ناقضاً للعادة .
ولقائل أن يقول : حصول العلم باللغة لمن علمه الله وعدم حصوله لمن لم يعلم ليس بناقض للعادة .
وأيضاً ، فالملائكة أما إن علموا وضع تلك الأسماء للمسميات فلا مزية أو لا ، فكيف علموا إصابته في ذلك ؟ والجواب من وجهين : أحدهما : أنه ربما يكون لكل صنف منهم لغة ، ثم حضر جميعهم فعرف كل صنف إصابته في تلك اللغة ، إلا أنهم بأسرهم عجزوا عن معرفتها بأسرها .
الثاني : أن الله عرفهم الدليل على صدقه ، ولم لا يكون من باب الكرامات أو من باب الإرهاص ؟ واحتج من قال : لم يكن نبياً ، بوجوه : أحدها : صدور المعصية عنه بعد ، وذلك غير جائز على النبي .
وثانيها : أنه لو كان مبعوثاً لكان إلى أحد ، لأن المقصود منه التبليغ ، وذلك لا يكون الملائكة ، لأنهم أفضل ، ولا حوّاء ، لأنها مخاطبة بلا واسطة بقوله : { ولا تقربا } ، ولا الجن ، لأنهم لم يكونوا في السماء .
وثالثها : قوله : { ثم اجتباه } ، وهذا يدل على أن الاجتباء كان بعد الزلة ، والنبي لا بد أن يكون مجتبى وقت كونه نبياً .
{ قال ألم أقل لكم } ؛ جواب فلما ، وقد تقدّم ذكر الخلاف في لما المقتضية للجواب ، أهي حرف أم ظرف ؟ ورجحنا الأول وذكرنا أنه مذهب سيبويه .
وألم : أقل تقرير ، لأن الهمزة إذا دخلت على النفي كان الكلام في كثير من المواضع تقريراً نحو قوله تعالى : { ألست بربكم } { ألم نشرح لك صدرك } { ألم نربِّك فينا وليداً } ولذلك جاز العطف على جملة إثباتية نحو : ووضعنا ، ولبثت ، ولكم فيه ، تنبيههم بالخطاب وهزهم لسماع المقول ، نحو قوله : { ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً } نبهه في الثانية بالخطاب .
وقد تقدم أن اللام في نحو : قلت لك ، أو لزيد ، للتبليغ ، وهو أحد المعاني التي ذكرناها فيها .
{ إني أعلم } : ياء المتكلم المتحرك ما قبلها ، إذا لقيت همزة القطع المفتوحة ، جاز فيها وجهان : التحريك والإسكان ، وقرئ بالوجهين في السبعة ، على اختلاف بينهم في بعض ذلك ، وتفصيل ذلك مذكور في كتب القراءات .
وسكنوا في السبعة إجماعاً تفتني ألا ، { أرني أنظر } { فاتبعني أهدك } { وترحمني أكن } ولا يظهر بشيء من اختلافهم واتفاقهم علة إلا اتباع الرواية .
والخلاف الذي تقدم في أعلم من كونه منصوباً أو مجروراً جاز هنا ، وقد تقدم إيضاحه هناك فلا نعيده هنا .
وقد حكى ابن عطية عن المهدوي ما نصه : قال المهدوي : ويجوز أن يكون قوله : أعلم اسماً بمعنى التفضيل في العلم ، فتكون ما في موضع خفض بالإضافة .
قال ابن عطية : وإذا قدر الأول اسماً ، فلا بد من إضمار فعل ينصب غيب ، تقديره : إني أعلم من كل أعلم غيب ، وكونها في الموضعين فعلاً مضارعاً أخصر وأبلغ . انتهى .
وما نقله ابن عطية عن المهدوي وهم .
والذي ذكر المهدوي في تفسيره ما نصه : { وأعلم ما تبدون } ، يجوز أن ينتصب ما بأعلم على أنه فعل ، ويجوز أن يكون بمعنى عالم ، أو يكون ما جراً بالإضافة ، ويجوز أن يقدر التنوين في أعلم إذا قدرته بمعنى عالم وتنصب ما به ، فيكون بمعنى حواج بيت الله ، انتهى .
فأنت ترى أنه لم يذهب إلى أن أفعل للتفضيل وأنه لم يجز الجر في ما والنصب ، وتكون أفعل اسماً إلا إذا كان بمعنى فاعل لا أفعل تفضيل ، ولا يمكن أن يقال ما نقله ابن عطية عن المهدوي من جواز أن يكون أعلم أفعل بمعنى التفضيل ، وخفض ما بالإضافة ألبتة .
{ غيب السموات والأرض } : تقدم الكلام على هذه الألفاظ الثلاثة ، واختلف في الغيب هنا ، فقيل : غيب السموات : أكل آدم وحواء من الشجرة ، لأنها أول معصية وقعت في السماء ، وغيب الأرض : قتل قابيل هابيل ، لأنها أول معصية كانت في الأرض .
وقيل : غيب السموات ما قضاه من أمور خلقه ، وغيب الأرض ما فعلوه فيها بعد القضاء .
وقيل : غيب السموات ما غاب عن ملائكته المقربين وحملة عرشه مما استأثر به تعالى من أسرار الملكوت الأعلى ، وغيب الأرض ما أخفاه عن أنبيائه وأصفيائه من أسرار ملكوته الأدنى وأمور الآخرة الأولى .
{ وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون } قال علي وابن مسعود وابن عباس ، رضوان الله عليهم أجمعين : ما تبدون : الضمير للملائكة ، وما كنتم تكتمون : يعني إبليس .
فيكون من خطاب الجمع ، ويراد به الواحد نحو : { إنّ الذين ينادونك } وروي أن إبليس مرّ على جسد آدم بين مكة والطائف قبل أن ينفخ فيه الروح فقال : لأمر مّا خلق هذا ، ثم دخل من فيه وخرج من دبره وقال : إنه خلق لا يتمالك لأنه أجوف ، ثم قال للملائكة الذين معه : أرأيتم إن فضل هذا عليكم وأمرتم بطاعته ما تصنعون ؟ قالوا : نطيع الله ، فقال إبليس في نفسه : والله لئن سلّطت عليه لأهلكنه ، ولئن سلّط علي لأعصينه ، فهذا قوله تعالى : { وأعلم ما تبدون } الآية ، يعني : من قول الملائكة وكتم إبليس .
وقال الحسن وقتادة : ما أبدوه هو قولهم : { أتجعل فيها } ، وما كتموه قولهم : لن يخلق الله أكرم عليه منا ، وقيل : ما أبدوه قولهم : { أتجعل فيها } وما كتموه أضمروه من الطاعة لله والسجود لآدم .
وقيل : ما أبدوه هو الإقرار بالعجز ، وما كتموه الكراهية لاستخلاف آدم عليه السلام .
وقيل : هو عام فيما أبدوه وما كتموه من كل أمورهم ، وهذا هو الظاهر .
وأبرز الفعل في قوله : { وأعلم } ليكون متعلقه جملة مقصودة بالعامل ، فلا يكون معمولها مندرجاً تحت الجملة الأولى ، وهو يدل على الاهتمام بالإخبار ، إذ جعل مفرداً بعامل غير العامل ، وعطف قوله { وما كنتم تكتمون } هو من باب الترقي في الإخبار ، لأن علم الله تعالى واحد لا تفاوت فيه بالنسبة إلى شيء من معلوماته ، جهراً كان أو سراً ، ووصل ما بكنتم يدل على أن الكتم وقع فيما مضى ، وليس المعنى أنهم كتموا عن الله لأن الملائكة أعرف بالله وأعلم ، فلا يكتمون الله شيئاً ، وإنما المعنى أنه هجس في أنفسهم شيء لم يظهره بعضهم لبعض ، ولا أطلعه عليه ، وإن كان المعنى إبليس ، فقد تقدم أنه قال في نفسه : ما حكيناه قيل عنه ، فكتم ذلك عن الملائكة .
وقد تضمن آخر هذه الآية من علم البديع الطباق وهو قوله : { ما تبدون وما كنتم تكتمون } .