الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَالَ يَـٰٓـَٔادَمُ أَنۢبِئۡهُم بِأَسۡمَآئِهِمۡۖ فَلَمَّآ أَنۢبَأَهُم بِأَسۡمَآئِهِمۡ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ غَيۡبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَأَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا كُنتُمۡ تَكۡتُمُونَ} (33)

قوله تعالى : { قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ } . . " آدَمُ " مبنيٌّ على الضم لأنه مفردٌ معرفةٌ ، وكلُّ ما كان كذلكُ بني على ما كان يُرْفع به ، وهو في مَحلِّ نصبٍ لوقوعه موقعَ [ المفعولِ به فإنَّ تقديره : أدعو آدمَ ، وبُنِي لوقوعِه موقعَ ] المضمرِ ، والأصلُ : يا إياك ، كقولهم : " يا إياك قد كُفِيْتُكَ " ويا أنتَ كقوله :

يَا أبْجَرَ بنَ أَبْجَرٍ يا أَنْتا *** أنتَ الذي طَلَّقْتَ عامَ جُعْتَا

قد أحسنَ اللهُ وقد أَسَأْتَا

و " يا إياك " أقيسُ من " يا أنت " لأنَّ الموضعَ موضعُ نَصْبٍ ، فإياك لائقٌ به ، وتحرَّزْتُ بالمفردِ من المضافِ نحو : يا عبدَ الله ، ومن الشبيهِ به وهو عبارةٌ عَمَّا كان الثاني فيه من تمامِ معنى الأول نحو : يا خيراً من زيدٍ ويا ثلاثةً وثلاثين ، وبالمعرفة من النكرةِ غيرِ المقصودة نحو قوله :352 أيا راكباً إمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ *** ندامَاي مِنْ نجرانَ ألاَّ تلاقِيا

فإن هذه الأنواع الثلاثة معربةٌ نصباً .

و " أَنْبِئْهُمْ " فعلُ أمر وفاعلٌ ومفعولٌ ، والمشهورُ : أَنْبِئْهُمْ مهموزاً مضمومَ الهاء ، وقُرئ بكسر الهاءِ وتُرْْوى عن ابنِ عامر ، كأنه أَتْبَعَ الهاءَ لحركةِ الباء ولم يَعْتَدَّ بالهمزةِ لأنها ساكنةٌ ، فهي حاجزٌ غيرُ حصينٍ ، وقُرِئ بحَذْفِ الهمزةِ ورُوِيَتْ عن ابنِ كثير ، قال ابن جني : " هذا على إبدالِ الهمزةِ ياءً كَمَا تقولَ : أَنْبَيْتُ بزنة أَعْطَيْت . قال : " وهذا ضعيفٌ في اللغة لأنه بدلٌ لا تخفيف ، والبَدلُ عندنا لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ " ، وهذا من أبي الفتح غيرُ مُرْضٍ لأن البدَل جاء في سَعَةِ الكلام ، حكى الأخفشُ في " الأوسط " له أنهم يقولون في أَخْطَأْت : أَخْطَيْتُ ، وفي توضَّأْت : توضَّيْتُ ، قال : " وربما حَوَّلوه إلى الواو ، وهو قليلٌ ، قالوا : رَفَوْتُ في رَفَأْتُ ولم يُسْمع رَفَيْتُ " .

إذا تقرَّر ذلك فللنَّحْويين في حرف العلة المبدلِ من الهمزةِ نظرٌ في أنه هل يجري مَجْرى حرفِ العلةِ الأصلي أم يُنْظرُ أصله ؟ ورتَّبوا على ذلك أحكاماً ومِن جملتها : هل يُحْذَفُ جَزْماً كالحرف غيرِ المُبْدل [ أم لا ] نظراً إلى أصلِه ، واستدلَّ بعضُهم على حَذْفِه جَزْماً بقول زهير :

جريءٍ متى يُظْلَمْ يُعاقِبْ بظُلْمِه *** سريعاً وإلاَّ يُبْدَ بالظُّلْمِ يَظْلِمِ

لأنَّ أصله " يُبْدَأ " بالهمزةِ فكذلك هذه الآيةُ أُبْدِلَتِ الهمزةُ ياءً ثم حُذِفَتَ حَمْلاً للأمرِ على المجزومِ . وقُرئ " أنبيهم " بإثباتِ الياء نظراً إلى الهمزةِ وهل تُضَمُّ الهاءُ نظراً للأصلِ أم تُكْسَرُ نظراً للصورة ؟ وجهان مَنْقولان عن حمزةَ عند الوقفِ عليه .

و " بأسمائِهم " متعلِّق بأَنْبِئْهُمْ ، وهو المفعولُ الثاني كما تقدَّم ، وقد يتعدَّى ب " عن " نحو : أنبأْتُه عن حالِه ، وأمَّا تعديتُه ب " مِنْ " في قوله تعالى :

{ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ } [ التوبة : 94 ] فسيأتي في موضعه إنْ شاءَ اللهُ تعالى .

قوله : { قَالَ : أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِي أَعْلَمُ } الأية . " قال " جوابُ " فلمَّا " والهمزةُ للتقرير إذا دَخَلَتْ على نفي قَرَّرَتْهُ فيَصيرُ إثباتاً نحو : { أَلَمْ نَشْرَحْ }

[ الانشراح : 1 ] أي : قد شرحنا و " لم " حرفُ جزمٍ وقد تَقَدَّمَ أحكامُها ، و " أَقُلْ " مجزومٌ بها حُذِفَتْ عينُه وهي الواوُ لالتقاءِ الساكنين . و " لكم " متعلقٌ به ، واللامُ للتبليغِ . والجملةُ من قوله : " إني أَعْلَمُ " في محلِّ نَصْبٍ بالقولِ . وقد تقدَّم نظائرُ هذا التركيبِ فلا حاجةَ إلى إعادتِه .

قوله : { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ } كقولِه : { أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } من كونِ " أَعْلَمُ " فعلاً مضارعاً أو أفْعَل بمعنى فاعِل أو أَفْعَل تفضيل ، وكونِ " ما " في محل نصبٍ أو جرٍ وقد تقدَّم . والظاهرُ : أن جملةَ قولِه : " وأعلمُ " معطوفةٌ على قولِه : { إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ } ، فتكونُ في محلِّ نصبٍ بالقولِ ، وقال أبو البقاء : " إنه مستأنفٌ وليسَ محكيَّاً بالقولِ " ، ثم جَوَّزَ فيه ذلك .

و " تُبْدُون " وزنه : تُفْعون لأن أصله تُبْدِوُونَ مثل تُخْرِجون ، فَأُعِلَّ بحذْفِ الواو بعد سكونها . والإِبداءُ : الإِظهارُ . والكَتْمُ : الإِخفاءُ ، يقال : بَدا يَبْدُو بَداءً ، قال :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . بَدا لَكَ في تلك القَلوصِ بَداءُ

قوله : { وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } : " ما " عطفٌ على " ما " الأولى بحسَبِ ما تكونُ عليه من الإِعرابِ .