قوله : { يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بأسْمَائِهِمْ } .
آدم : مبني على الضم ؛ لأنه مفرد معرفة ، وكل ما كان كذلك بُني على ما كان يرفع به ، وهو في محلّ نصب لوقوعه موقع المَفْعول به ، فإن تقديره : ادعوا آدم ، وبني لوقوعه موقع المُضْمَرِ ، والأصل : يا إياك كقولهم : " يَا إيَّاكَ قَدْ كَفَيْتُكَ " ، و " يا أَنْتَ " ؛ كقوله [ الرجز ]
يَا أَبْجَرُ بْنَ أَبْجَرٍ يَا أَنْتَا *** أَنْتَ الَّذِي طَلَّقْتَ عَامَ جُعْتا
*** قَدْ أَحْسَنَ اللهُ وَقَدْ أَسَأْتَا{[1086]} ***
و " يَا إِيَّاكَ " أقيس من " يا أنت " ؛ لأن الموضع موضع نصب ، ف " إياك " أليق به ، وتحرزت بالمفرد عن المضاف نحو : يا عبد الله ، ومن الشبيه به ، وهو عبارة عما كان الثَّانِي فيه من تمام معنى الأوّل نحو : " يا خيراً من زيد " و " يا ثلاثةً وثلاثين " ، وبالمعرفة من النكرة المقصودة ؛ نحو قوله : [ الطويل ]
فَيَا رَاكِباً إِمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ *** نَدَامَايَ مِنْ نَجْرَانَ أَنْ لاَ تَلاَقيَا{[1087]}
فإن هذه الأنواع الثلاثة معربة نصباً .
" أنبئهم " فعل أمر ، وفاعل ، ومفعول ، والمشهور " أنبئهم " مهموز مضموماً ، وقرئ{[1088]} بكسر الهاء . ويروى عن " ابن عامر " ، كأنه أتبع الهاء لحركة " الباء " ، ولم يعتد ب " الهمزة " ، لأنها ساكنةٌ ، فهي حاجز غير حَصِيْنٍ .
وقرئ{[1089]} بحذف الهمزة ، ورُويت عن " ابن كثير " ، قال " ابن جنّيّ " هذا على إبدال الهمزة ياء ، كما تقول : أنبيت كأعطيت ، قال : وهذا ضعيف في اللّغة ؛ لأنه بدلٌ لا تخفيف ، والبدل عندنا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر .
وهذا من أبي الفَتْحِ غير مرضٍ ، لأن البدل جاء في سَعَةِ الكلام ، حكى " الأخفش " في " الأوسط " أنهم يقولون في أَخْطَأَت : أَخْطَيْت ، وفي توضأت : توضيت .
قال : وربما حَرّكوه إلى " الوا " ، وهذا قليل قالوا : " رَفَوْت " في " رَفَأْت " ، ولم أسمع " رَفَيْت " .
إذا تقرر ذلك ، فللنحويين في صرف العلّة المبدل من الهمزة نظر في أنه هل يجرى مجرى العلّة الأصلي أم ينظر إلى أصله ؟ ورتبوا على ذلك أحكاماً ، ومن جملتها : هل يحذف جزماً كالحرف غير المبدل أم لا نظراً إلى أصله ؟ واستدل بعضهم على حذفه جزماً بقول زهير : [ الطويل ]
جَرِيءٍ مَتَى يُظْلَمْ يُعَاقِبْ بِظُلْمِهِ *** سَرِيعاً وَإِلاَّ يُبْدَ بِالظُّلْمِ يَظْلِمِ{[1090]}
لأن أصله : " يبدأ " بالهمزة ، فكذلك هذه الآية أُبدلت الهمزة ياء ، ثم حذفت حملاً للأمر على المجزوم .
وقرئ : " أَنْبِيهُمْ " {[1091]} بإثبات " الياء " نظراً إلى " الهمزة " وهل تضم " الهاء " نظراً للأصل أم تكسر نظراً للصورة ؟
وجهان منقولان عن " حمزة " عند الوقف عليه .
و " بِأَسْمَائِهِمْ " : متعلّق ب " أَنْبِئْهُمْ " ، وهو المفعول الثاني كما تَقَدّم ، وقد يتعدّى ب " عن " نحو : " أنبأته عن حاله " ، وأما تعديته ب " من " في قوله : { قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ } [ التوبة : 94 ] فسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى .
قوله : { فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ : أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِِ } .
والمراد من هذا الغيب أنه كان عالماًَ بأحوال آدم قبل نطقه ، وهذا يدل على أنه سبحانه يعلم الأشياء قبل حدوثها ، وذلك يدلّ على بطلان مذهب " هشام بن الحكم " في أنه لا يعلم الأشياء إلاَّ عند وقوعها ، فإن قيل : قوله : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } يدلّ على أنّ العبد قد يعلم الغيب ؛ لأن الإيمان بالشَّيء فرع العلم به ، وهذا الآية مشعرة بأن علم الغيب ليس إلا لله تعالى ، وأن كل من سواه فهم خَالُونَ عن علم الغيب .
والجواب : ما تقدم في قوله : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } [ البقرة : 3 ] .
قوله : { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ } " قال " جواب " فلما " ، والهمزة للتقرير إذا دخلت على نفي قررته ، فيصير إثباتاً كقوله : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ } [ الشرح : 1 ] أي : قد شرحنا .
و " لم " حرف جزم ، و " أقل " : مجزوم بها حذفت عينه ، وهي " الواو " لالتقاء الساكنين ، و " لكم " متعلّق به ، و " اللام " للتبليغ ، والجُمْلَة من قوله : " إني أعلم " في محلّ نصب بالقول .
قوله : { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ } كقوله { أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } من كون " أعلم " فعلاً مضارعاً ، و " أفعل " بمعنى " فاعل " أو " أفعل " تفضيل ، وكون ما في محلّ نصب أو جر ، وقد تقدم .
والظاهر : أن جملة قوله : " وأعلم " معطوفة على قوله : { إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ } ، فتكون في محلّ نصب بالقول .
وقال " أبو البقاء " {[1092]} : إنه مستأنف ، وليس محكياً بالقول : ثم جوَّز فيه ذلك .
و " تبدون " وزنه : " تفعون " ؛ لأن أصله : تبدوون مِثْل : تخرجون ، فأعلّ بحذف " الواو " بعد سكونها ، و " الإبداء " : الإظهار ، و " الكَتْم " الإخفاء ؛ يقال : بَدَا يَبْدُو بَدَاء ؛ قال : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** بَدَا لَكَ فِي تِلْكَ القَلُوصِ بَدَاءُ{[1093]}
وقوله : { وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمونَ } عطف على " ما " الأولى بحسب ما تكون عليه من الإعراب .
روي عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وسعيد بن جبير : أن قوله : " ما تُبْدُون " أراد به قولهم : { أَتَجْعَلُ فِيْهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيْهَا } وبقوله : { وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُون } أراد به ما أسر " إبليس " في نفسه من الكبر وألاَّ يسجد .
قال " ابن عطية " {[1094]} : وجاء " تكتمون " للجماعة ، والكاتم واحدٌ في هذا القول على تجوّز العرب واتِّسَاعها ، كما يقال لقوم قد جَنَى منهم واحد : أنتم فعلتم كذا ، أي : منكم فاعله ، وهذا مع قَصْد تعنيف ، ومنه قوله : { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ } [ الحجرات : 4 ] وإنما ناداه منهم عُيَيْنَةُ .
وقيل : " الأقرع " {[1095]} .
وقيل : { إِنِي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } من الأمور الغائبة ، والأسرار الخفية التي يظن في الظاهر أنه لا مصلحة فيها ، ولكن لعلمي بالأسرار المغيبة أعلم أنّ المصلحة في خلقها .
وقيل إنه - تعالى - لما خلق آدم رأت الملائكة خلقاً عجيباً قالوا : ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أكرم عليه منه ، فهذا الذي كَتَمُوا ، ويجوز أن يكون هذا القول سرًّا أسروه بينهم ، فأبداه بعضهم لبعض ، وأسروه عن غيرهم ، فكان في هذا الفعل الواحد إبداء وكتمان .
وقالت طائفة : الإبْدَاء والكَتْمُ المراد به العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم أجمع ، وهذه الآية تدلّ على فضيلة العلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.