{ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } من كامل الخلق وناقصه ، وحسن وقبيح ، وذكر وأنثى { لا إله إلا هو العزيز الحكيم } تضمنت هذه الآيات تقرير إلهية الله وتعينها ، وإبطال إلهية ما سواه ، وفي ضمن ذلك رد على النصارى الذين يزعمون إلهية عيسى ابن مريم عليه السلام ، وتضمنت إثبات حياته الكاملة وقيوميته التامة ، المتضمنتين جميع الصفات المقدسة كما تقدم ، وإثبات الشرائع الكبار ، وأنها رحمة وهداية للناس ، وتقسيم الناس إلى مهتد وغيره ، وعقوبة من لم يهتد بها ، وتقرير سعة علم الباري ونفوذ مشيئته وحكمته .
وفي ظلال العلم اللطيف الشامل الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء يلمس المشاعر الإنسانية لمسة رفيقة عميقة ، تتعلق بالنشأة الإنسانية . النشأة المجهولة في ظلام الغيب وظلام الأرحام ، حيث لا علم للإنسان ولا قدرة ولا إدراك :
( هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء . لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) . . . .
هكذا ( يصوركم ) . . يمنحكم الصورة التي يشاء ؛ ويمنحكم الخصائص المميزة لهذه الصورة . وهو وحده الذي يتولى التصوير ، بمحض إرادته ، ومطلق مشيئته : ( كيف يشاء ) . . ( لا إله إلا هو ) . . ( العزيز ) . . ذو القدرة والقوة على الصنع والتصوير( الحكيم ) . . الذي يدبر الأمر بحكمته فيما يصور ويخلق بلا معقب ولا شريك .
وفي هذه اللمسة تجلية لشبهات النصارى في عيسى عليه السلام ونشأته ومولده . فالله هو الذي صور عيسى . . ( كيف يشاء ) . . لا أن عيسى هو الرب . أو هو الله . أو هو الابن . أو هو الأقنوم اللاهوتي الناسوتي . إلى آخر ما انتهت إليه التصوارت المنحرفة الغامضة المجانبة لفكرة التوحيد الناصعة الواضحة اليسيرة التصور القريبة الإدراك !
{ هُوَ الّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : الله الذي يصوّركم فيجعلكم صورا أشباحا في أرحام أمهاتكم كيف شاء وأحبّ ، فيجعل هذا ذكرا وهذا أنثى ، وهذا أسود وهذا أحمر . يعرّف عباده بذلك أن جميع من اشتملت عليه أرحام النساء ممن صوّره وخلقه كيف شاء ، وأن عيسى ابن مريم ممن صوّره في رحم أمه وخلقه فيها كيف شاء وأحبّ ، وأنه لو كان إلها لم يكن ممن اشتملت عليه رحم أمه ، لأن خلاّق ما في الأرحام لا تكون الأرحام عليه مشتملة ، وإنما تشتمل على المخلوقين . كما :
حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { هُوَ الّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْف يَشاءُ } قد كان عيسى ممن صُوّر في الأرحام ، لا يدفعون ذلك ، ولا ينكرونه ، كما صور غيره من بني آدم ، فكيف يكون إلها وقد كان بذلك المنزل ؟
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { هُوَ الّذِي يُصوّرَكُمْ فِي الأرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ } أي أنه صور عيسى في الرحم كيف شاء .
حدثنا به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قوله : { هُو الّذِي يُصوّرُكُمْ في الأرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ } قال : إذا وقعت النطفة في الأرحام ، طارت في الجسد أربعين يوما ، ثم تكون علقة أربعين يوما ، ثم تكون مضغة أربعين يوما ، فإذا بلغ أن يخلق بعث الله ملكا يصوّرها ، فيأتي الملك بتراب بين أصبعيه ، فيخلطه في المضغة ثم يعجنه بها ثم يصوّرها كما يؤمر ، فيقول : أذكر أو أنثى ، أشقيّ أو سعيد ، وما رزقه ، وما عمره ، وما أثره ، وما مصائبه ؟ فيقول الله ، ويكتب الملك . فإذا مات ذلك الجسد ، دفن حيث أخذ ذلك التراب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { هُوَ الّذِي يُصوّرُكُمْ في الأرْحَامِ كَيْف يَشاءُ } قادر والله ربنا أن يصوّر عباده في الأرحام كيف يشاء من ذكر أو أنثى ، أو أسود أو أحمر ، تام خلقه وغير تام .
القول في تأويل قوله تعالى : { لا إلَهَ إلاّ هُوَ العَزِيزُ الحَكيمُ } .
وهذا القول تنزيه من الله تعالى ذكره نفسه أن يكون له في ربوبيته ندّ أو مثل أو أن تجوز الألوهة لغيره ، وتكذيب منه للذين قالوا في عيسى ما قالوا من وفد نجران الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسائر من كان على مثل الذي كانوا عليه من قولهم في عيسى ، ولجميع من ادّعى مع الله معبودا ، أو أقرّ بربوبية غيره . ثم أخبر جل ثناؤه خلقه بصفته وعيدا منه لمن عبد غيره أو أشرك في عبادته أحدا سواه ، فقال : { هُوَ الْعَزِيزُ } الذي لا ينصر من أراد الانتقام منه أحد ، ولا ينجيه منه وأْلٌ ولا لَجَأٌ ، وذلك لعزّته التي يذلّ لها كل مخلوق ، ويخضع لها كل موجود . ثم أعلمهم أنه الحكيم في تدبيره ، وإعذاره إلى خلقه ، ومتابعة حججه عليهم ، ليهلك من هلك منهم عن بينة ، ويحيا من حيّ عن بينة . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، قال : ثم قال : يعني الربّ عزّ وجلّ إنزاها لنفسه ، وتوحيدا لها مما جعلوا معه { لا إلَهَ إلاّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } قال : العزيز في نصرته ممن كفر به إذا شاء ، والحكيم في عذره وحجته إلى عباده .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { لا إلَهَ إلاّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } يقول : عزيز في نقمته ، حكيم في أمره .
وقوله : { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } أي من الصور المختلفة ، كالدليل على القيومية ، والاستدلال على أنه عالم بإتقان فعله في خلق الجنين وتصويره . وقرئ " تصوركم " أي صوركم لنفسه وعبادته . { لا إله إلا هو } إذ لا يعلم غيره جملة ما يعلمه ولا يقدر على مثل ما يفعله . { العزيز الحكيم } إشارة إلى كمال قدرته وتناهي حكمته . قيل : هذا حجاج على من زعم أن عيسى كان ربا ، فإن وفد نجران لما حاجوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت السورة ، من أولها إلى نيف وثمانين آية تقريرا لما احتج به عليهم وأجاب عن شبههم .
وفي قوله : { هو الذي يصوركم } رد على أهل الطبيعة ، إذ يجعلونها فاعلة مستبدة ، وشرح النبي صلى الله عليه وسلم كيفية التصوير في الحديث الذي رواه ابن مسعود وغيره أن النطفة إذا وقعت في الرحم مكثت نطفة أربعين يوماً ثم تكون علقة{[2933]} أربعين يوماً ثم مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليها ملكاً فيقول : يا رب ، أذكر أم أنثى ؟ أشقي أم سعيد ؟ الحديث بطوله على اختلاف ألفاظه{[2934]} ، وفي مسند ابن سنجر{[2935]} حديث : إن الله يخلق عظام الجنين وغضاريفه من مني الرجل ولحمه وشحمه وسائر ذلك من مني المرأة ، وصور بناء مبالغة من : صار يصور إذا أمال وثنى إلى حال ما ، فلما كان التصوير إمالة إلى حال وإثباتاً فيها ، جاء بناؤه على المبالغة ، والرحم موضع نشأة الجنين ، و { كيف يشاء } يعني من طول وقصر ولون وسلامة وعاهة وغير ذلك من الاختلافات{[2936]} . و { العزيز } الغالب و { الحكيم } ذو الحكمة أو المحكم في مخلوقاته وهذا أخص بما ذكر من التصوير .
{ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء }
استئناف ثان يبيّن شيئاً من معنى القيّومية ، فهو كبدل البعض من الكل ، وخصّ من بين شؤون القيّومية تصويرُ البشر لأنّه من أعجب مظاهر القدرة ؛ ولأنّ فيه تعريضاً بالرد على النصارى في اعتقادهم إلاهية عيسى من أجل أنّ الله صوّره بكيفية غير معتادة فبيّن لهم أنّ الكيفيات العارضة للموجودات كلّها مِن صنع الله وتصويره : سواء المعتاد ، وغيرُ المعتاد .
وكيف هنا ليس فيها معنى الاستفهام ، بل هي دالة على مجرّد معنى الكيفية ؛ أي الحالة ، فهي هنا مستعملة في أصلها الموضوعة له في اللغة ؛ إذ لا ريب في أنّ ( كيف ) مشتملة على حروف مادة الكيفية ، والتكيّف ، وهو الحالة والهيئة ، وإن كان الأكثر في الاستعمال أن تكون اسم استفهام ، وليست ( كيف ) فعلاً ؛ لأنّها لا دلالةَ فيها على الزمان ، ولا حرفاً لاشتمالها على مادة اشتقاق . وقد تجيء ( كيف ) اسم شرط إذا اتّصلت بها ما الزائدة وفي كلّ ذلك لا تفارقها الدلالة على الحالة ، ولا يفارقها إيلاء الجملة الفعلية إياها إلاّ ما شذّ من قولهم : كيف أنت . فإذا كانت استفهاماً فالجملة بعدها هي المستفهم عنه فتكون معمولة للفعل الذي بعدها ، ملتزماً تقديمُها عليه ؛ لأنّ للاستفهام الصدارة ، وإذا جرّدت عن الاستفهام كان موقعها من الإعراب على حسب ما يطلبه الكلام الواقعة هي فيه من العوامل كسائر الأسماء .
وأمّا الجملة التي بعدها حينئذ فالأظهر أن تعتبر مضافاً إليها اسم كيف ويعتبر كيف من الأسماء الملازمة للإضافة . وجرى في كلام بعض أهل العربية أنّ فتحة ( كيف ) فتحة بناء .
والأظهر عندي أنّ فتحة كيف فتحة نصب لزِمَتْها لأنّها دائماً متّصلة بالفعل فهي معمولة له على الحالية أو نحوِها ، فلملازمة ذلك الفتح إياها أشبهت فتحة البناء .
فكيف في قوله هنا { كيف يشاء } يعرب مفعولاً مطلقاً « ليصوِّرُكُم » ، إذ التقدير : حال تصوير يشاؤها كما قاله ابن هشام في قوله تعالى : { كيف فعل ربك } [ الفجر : 6 ] .
وجوّز صاحب « المغني » أن تكون شرطية ، والجواب محذوف لدلالة قوله : { يصوركم } عليه وهو بعيد ؛ لأنّها لا تأتي في الشرط إلاّ مقترنة بمَا . وأما قول الناس : كيف شاء فعل فلحن . وكذلك جزم الفعل بعدها قد عُدّ لحناً عند جمهور أئمّة العربية .
ودلّ تعريف الجزأين على قصر صفة التصوير عليه تعالى وهو قصر حقيقي لأنّه كذلك في الواقع ؛ إذ هو مكّون أسباب ذلك التصوير وهذا إيماء إلى كشف شبهة النصارى إذ توهّموا أن تخلّق عيسى بدون ماء أب دليل على أنّه غير بشر وأنّه إله وجهلوا أنّ التصوير في الأرحام وإن اختلفت كيفياته لا يخرج عن كونه خلقاً لما كان معدوماً فكيف يكون ذلك المخلوق المصوّر في الرحم إلهاً .
{ لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم } .
تذييل لتقرير الأحكام المتقدّمة . وتقدم معنى العزيز الحكيم في قوله تعالى : { فاعلموا أن اللَّه عزيز حكيم } وفي افتتاح السورة بهذه الآيات براعة استهلال لنزولها في مجادلة نصارى نجران ، ولذلك تكرّر في هذا الطالع قصْر الإلهية على الله تعالى في قوله : { الله لا إله إلا هو } وقوله : { هو الذي صوركم } وقوله : لا إله إلا هو .