ثم قال تعالى : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } أي : من تجرأ على المعاصي واقتحم على الإثم ثم استغفر الله استغفارا تاما يستلزم الإقرار بالذنب والندم عليه والإقلاع والعزم على أن لا يعود . فهذا قد وعده من لا يخلف الميعاد بالمغفرة والرحمة .
فيغفر له ما صدر منه من الذنب ، ويزيل عنه ما ترتب عليه من النقص والعيب ، ويعيد إليه ما تقدم من الأعمال الصالحة ، ويوفقه فيما يستقبله من عمره ، ولا يجعل ذنبه حائلا عن توفيقه ، لأنه قد غفره ، وإذا غفره غفر ما يترتب عليه .
واعلم أن عمل السوء عند الإطلاق يشمل سائر المعاصي ، الصغيرة والكبيرة ، وسمي " سوءًا " لكونه يسوء عامله بعقوبته ، ولكونه في نفسه سيئًا غير حسن .
وكذلك ظلم النفس عند الإطلاق يشمل ظلمها بالشرك فما دونه . ولكن عند اقتران أحدهما بالآخر قد يفسر كل واحد منهما بما يناسبه ، فيفسر عمل السوء هنا بالظلم الذي يسوء الناس ، وهو ظلمهم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم .
ويفسر ظلم النفس بالظلم والمعاصي التي بين الله وبين عبده ، وسمي ظلم النفس " ظلما " لأن نفس العبد ليست ملكا له يتصرف فيها بما يشاء ، وإنما هي ملك لله تعالى قد جعلها أمانة عند العبد وأمره أن يقيمها على طريق العدل ، بإلزامها للصراط المستقيم علمًا وعملاً ، فيسعى في تعليمها ما أمر به ويسعى في العمل بما يجب ، فسعيه في غير هذا الطريق ظلم لنفسه وخيانة وعدول بها عن العدل ، الذي ضده الجور والظلم .
وبعد هذه الحملة الغاضبة على الخونة الأثمة ، والعتاب الشديد للمنافحين عنهم والمجادلين . يجيء تقرير القواعد العامة لهذه الفعلة وآثارها . وللحساب عليها والجزاء . ولقاعدة الجزاء عامة . القاعدة العادلة التي يعامل بها الله العباد . ويطلب إليهم أن يحاولوا محاكاتها في تعاملهم فيما بينهم ، وأن يتخلقوا بخلق الله - خلق العدل - فيها :
( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ، ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما . ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه . وكان الله عليما حكيما ) . . ومن يكسب خطيئة أو إثما ، ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينًا . .
إنها آيات ثلاث تقرر المبادىء الكلية التي يعامل بها الله عباده ؛ والتي يملك العباد أن يعاملوا بعضهم بعضا بها ، ويعاملوا الله على أساسها فلا يصيبهم السوء .
الآية الأولى تفتح باب التوبة على مصراعيه ، وباب المغفرة على سعته ؛ وتطمع كل مذنب تائب في العفو والقبول :
( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ، ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيمًا . . ) إنه - سبحانه - موجود للمغفرة والرحمة حيثما قصده مستغفر منيب . . والذي يعمل السوء يظلم غيره . ويظلم نفسه . وقد يظلم نفسه وحدها إذا عمل السيئة التي لا تتعدى شخصه . . وعلى أية حال فالغفور الرحيم يستقبل المستغفرين في كل حين ؛ ويغفر لهم ويرحمهم متى جاءوه تائبين . هكذا بلا قيد ولا شرط ولا حجاب ولا بواب ! حيثما جاءوا تائبين مستغفرين وجدوا الله غفورا رحيما . .
{ وَمَن يَعْمَلْ سُوَءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رّحِيماً } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ومن يعمل ذنبا ، وهو السوء ، أو يظلم نفسه بإكسابه إياها ما يستحقّ به عقوبة الله ، { ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ } يقول : ثم يتوب إلى الله بانابته مما عمل من السوء وظلم نفسه ومراجعته ما يحبه الله من الأعمال الصالحة التي تمحو ذنبه وتذهب جُرمه ، { يَجِدِ اللّهَ غَفُورا رَحِيما } يقول : يجد ربه ساترا عليه ذنبه بصفحه له عن عقوبته جرمه ، رحيما به .
واختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذه الاَية ، فقال بعضهم : عني بها الذين وصفهم الله بالخيانة بقوله : { وَلا تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ } .
وقال آخرون : بل عني بها الذين يجادلون عن الخائنين ، الذين قال الله لهم : { ها أنْتُمْ هَؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَياةِ الدّنْيا } وقد ذكرنا قائلي القولين كليهما فيما مضى .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أنه عنى بها كل من عمل سوءا أو ظلم نفسه ، وإن كانت نزلت في أمر الخائنين والمجادلين عنهم الذين ذكر الله أمرهم في الاَيات قبلها .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن عاصم ، عن أبي وائل قال : قال عبد الله : كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنبا أصبح قد كتب كفارة ذلك الذنب على بابه ، وإذا أصاب البول شيئا منه قرضه بالمقراض ، فقال رجل : لقد أتى الله بني إسرائيل خيرا . فقال عبد الله : ما آتاكم الله خيرا مما أتاهم ، جعل الله الماء لكم طهورا ، وقال : و{ الّذِينَ إذَا فَعَلُوا فاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } وقال : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورا رَحِيما } .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا ابن عون ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قال : جاءت امرأة إلى عبد الله بن مغفل ، فسألته عن امرأة فجرت فحبلت ، فلما ولدت قتلت ولدها ، فقال ابن مغفل : ما لها ؟ لها النار ! فانصرفت وهي تبكي ، فدعاها ، ثم قال : ما أرى أمرك إلا أحد أمرين : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورا رَحِيما } قال : فمسحت عينها ثم مضت .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءا أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورا رَحِيما } قال : أخبر الله عباده بحلمه وعفوه وكرمه ، وسعة رحمته ومغفرته ، فمن أذنب صغيرا كان أو كبيرا ، ثم يستغفر الله ، يجد الله غفورا رحيما ، ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال .
ولما تمكن هذا الوعيد وقضت العقول بأن لا مجادل لله ولا وكيل يقوم بأمور العصاة عنده ، عقب ذلك هذا الرجاء العظيم ، والمهل المنفسح بقوله تعالى : { ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله } الآية ، منحنى من عمل السوء ، وهما بمعنى واحد تكرر باختلاف لفظ مبالغة ، واستغفار الله تعالى مع التحقيق في ذلك توبة وقوله تعالى : { يجد الله } استعارة ، لما كانت الرحمة والغفران معدة للمستغفرين التائبين ، كانوا كالواجدين لمطلوب ، وكأن التوبة ورود على رحمة الله وقرب من الله ، وقال عبد الله بن مسعود يوماً في مجلسه : كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنباً أصبح قد كتبت كفارة ذلك الذنب على بابه ، وإذا أصاب البول شيئاً من ثيابه قرضه بالمقراضين ، فقال رجل من القوم : لقد آتى الله بني إسرائيل خيراً ، فقال عبد الله : ما آتاكم الله خير مما آتاهم ، جعل لكم الماء طهوراً ، وقال { ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه } الآية وهذه آية وعد بشرط المشيئة على ما تقتضيه عقيدة أهل السنة ، وفضل الله مرجو وهو المستعان{[4277]} .