{ 43 - 44 ْ } { إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ْ }
وكان اللّه قد أرى رسوله المشركين في الرؤيا عددا قليلا ، فبشر بذلك أصحابه ، فاطمأنت قلوبهم وتثبتت أفئدتهم .
ولو أراكهم الله إياهم كَثِيرًا فأخبرت بذلك أصحابك { لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ ْ } فمنكم من يرى الإقدام على قتالهم ، ومنكم من لا يرى ذلك فوقع من الاختلاف والتنازع ما يوجب الفشل .
{ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ ْ } فلطف{[348]} بكم { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ْ } أي : بما فيها من ثبات وجزع ، وصدق وكذب ، فعلم اللّه من قلوبكم ما صار سببا للطفه وإحسانه بكم وصدق رؤيا رسوله ،
إن وراء هذا التلاقي على غير موعد - بهذه الدقة وبهذا الضبط - لأمراً مقضياً يريد الله تحقيقه في عالم الواقع ، ويدبر له هذا التدبير الخفي اللطيف ؛ ويجعلكم أنتم أداة تحقيقه ، ويهيئ له جميع الظروف التي تيسر لكم القيام به !
أما هذا الأمر المقتضى الذي دبر الله الظروف لتحقيقه فهو الذي يقول عنه :
ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة . .
والهلاك يعبر به عن مدلوله المباشر ، كما يعبر به عن الكفر . وكذلك الحياة فإنها قد تفيد مدلولها المباشر وقد يعبر بها عن الإيمان . . وهذا المدلول الثاني أظهر هنا ، وذلك كما قال الله سبحانه في مثل هذا المعنى : ( أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ? ) . . فعبر عن الكفر بالموت وعبر عن الإيمان بالحياة ؛ وجرى في هذا على نظرة الإسلام لحقيقة الكفر وحقيقة الإيمان . هذه النظرة التي أوضحناها بشيء من التفصيل عند استعراض هذه الآية من سورة الأنعام في الجزء الثامن
ووجه ترجيح هذا المدلول هنا أن يوم بدر - كما قال الله سبحانه - كان ( يوم الفرقان )وقد فرق الله فيه بين الحق والباطل - كما ذكرنا منذ قليل - ومن ثم فإن من يكفر بعدها فإنما يكفر في غير شبهة - يكفر عن بينة فيهلك عن بينة - ومن يؤمن بعدها فإنما يؤمن عن بينة واضحة تبرزها المعركة . .
إن الموقعة - بظروفها التي صاحبتها - تحمل بينة لا تجحد ، وتدل دلالة لا تنكر ، على تدبير وراء تدبير البشر ، وعلى قوى وراءها غير قوة البشر . . إنها تثبت أن لهذا الدين رباً يتولى أصحابه متى أخلصوا له وجاهدوا في سبيله وصبروا وثبتوا ، وأنه له كان الأمر إلى القوى المادية الظاهرة ما هزم المشركون ولا انتصرت العصبة المسلمة هذا الانتصار العظيم . .
ولقد قال المشركون أنفسهم لحليفهم الذي أراد أن يمدهم بالرجال وهم ذاهبون للقتال : " فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم ، ولئن كنا إنما نقاتل الله - كما يزعم محمد - فما لأحد بالله من طاقة " ! ولقد علموا - لو كان العلم يجدي - أنهم إنما يقاتلون الله كما قال لهم محمد الصادق الأمين ، وأنه ما لأحد بالله من طاقة . . فإذا هلكوا بعد ذلك بالكفر فإنما يهلكون عن بينة !
هذا ما يتبادر إلى الذهن من معنى هذا التعقيب : ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة
إن وقوع المعركة بين جند الحق وجند الباطل ؛ واستعلاء سلطان الحق في عالم الواقع - بعد استعلائه فيعالم الضمائر - إن هذا كله مما يعين على جلاء الحق للعيون والقلوب ؛ وعلى إزالة اللبس في العقول والنفوس ؛ بحيث يتبين الأمر بهذا الفتح ويتجلى ؛ فلا تعود لمن يختار الهلاك - أي الكفر - شبهة في الحق الذي استعلن واستعلى ؛ كما أن الذي يريد أن يحيا - أي يؤمن - لا يعود لديه شك في أن هذا هو الحق الذي ينصره الله ، ويخذل الطغاة .
وهذا يعود بنا إلى ما قدمناه في الجزء التاسع - في التعريف بسورة الأنفال - من الحديث عن ضرورة الجهاد لتحطيم قوى الشر وسلطان الطاغوت ؛ وإعلاء راية الحق وسلطان الله . . فهذا مما يعين على جلاء الحق : ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة . . كما أن هذه اللفتة تساعدنا على تفهم أبعاد الإيحاء الذي يعطيه قول الله تعالى ، في هذه السورة : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم . . . )فإعداد القوة والإرهاب بها مما يعين على جلاء الحق في أنماط من القلوب . لا تستيقظ ولا تتبين إلا على إيقاعات القوة التي تحمل الحق وتنطلق به لإعلان تحرير " الإنسان " في " الأرض " كما أسلفنا .
والتعقيب على ذلك الجانب من التدبير الإلهي في المعركة ، وعلى غاية هذا التدبير التي تحققت فعلاً هو : ( وإن الله لسميع عليم ) . . .
فهو - سبحانه - لا يخفى عليه شيء مما يقول فريق الحق أو فريق الباطل ؛ ولا شيء مما يخفونه في صدورهم وراء الأقوال والأفعال ؛ وهو يدبر ويقدر باطلاعه على الظواهر وعلمه بالسرائر ، وهو السميع العليم . .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَلََكِنّ اللّهَ سَلّمَ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ } .
يقول تعالى ذكره : وإن الله يا محمد سميع لما يقول أصحابك ، عليم بما يضمرونه ، إذ يريك الله عدوّك وعدوّهم فِي مَنامِكَ قَلِيلاً يقول : يريكهم في نومك قليلاً فتخبرهم بذلك ، حتى قويت قلوبهم واجترءوا على حرب عدوّهم . ولو أراك ربك عدوّك وعدوّهم كثيرا لفشل أصحابك ، فجبنوا وخافوا ، ولم يقدروا على حرب القوم ، ولتنازعوا في ذلك ولكن الله سلمهم من ذلك بما أراك في منامك من الرؤيا ، إنه عليم بما تخفيه الصدور ، لا يخفى عليه شيء مما تضمره القلوب .
وقد زعم بعضهم أن معنى قوله : إذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً : أي في عينك التي تنام بها ، فصيرّ المنام هو العين ، كأنه أراد : إذ يريكهم الله في عينك قليلاً .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً قال : أراه الله إياهم في منامه قليلاً ، فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك ، فكان تثبيتا لهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
وقال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : إذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً . . . الاَية فكان أوّل ما أراه من ذلك نعمة من نعمه عليهم ، شجعهم بها على عدوّهم ، وكفاهم بها ما تخوف عليهم من ضعفهم لعلمه بما فيهم .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : وَلَكِنّ اللّهَ سَلّمَ فقال بعضهم : معناه : ولكن الله سلم للمؤمنين أمرهم حتى أظهرهم على عدوّهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَلَكِنّ اللّهَ سَلّمَ يقول : سلم الله لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوّهم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولكن الله سلم أمره فيهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة : وَلَكِنّ اللّهَ سَلّمَ قال : سلم أمره فيهم .
وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي ما قاله ابن عباس ، وهو أن الله سلم القوم بما أرى نبيه صلى الله عليه وسلم في منامه من الفشل والتنازع ، حتى قويت قلوبهم واجترءوا على حرب عدوّهم وذلك أن قوله : وَلَكِنّ اللّهَ سَلّمَ عقيب قوله : وَلَوْ أرَاكَهُمْ كَثِيرا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الأمْرِ فالذي هو أولى بالخبر عنه ، أنه سلمهم منه جلّ ثناؤه ما كان مخوفا منه لو لم يُرِ نبيه صلى الله عليه وسلم من قلة القوم في منامه .
{ إذ يُريكَهم الله في منامك قليلا } مقدر باذكر أو بدل ثان من يوم الفرقان ، أو متعلق بعليم أي يعلم المصالح إذ يقللهم في عينك في رؤياك وهو أن تخبر به أصحابك فيكون تثبيتا لهم وتشجيعا على عدوهم . { ولو أراكهم كثيرا لفشلتم } لجبنتم . { ولتنازعتم في الأمر } في أمر القتال وتفرقت آراؤكم بين الثبات والفرار . { ولكن الله سلّم } أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع . { إنه عليم بذات الصدور } يعلم ما سيكون فيها وما يغير أحوالها .